بقلم الدكتور هاني الخوري/الواقع المعاشي السوري بين المؤشرات الصعبة واستعادة الحياة

لا شك بان الواقع المعاشي السوري اليوم يسبب معاناة كبيرة جدا لمعظم المواطنين، فقد مرت على الشعب السوري تسع سنين عجاف صعبة وتدميرية من خلال الحرب على سورية والحرب على الارهاب، وقد استنزفت هذه الحرب معظم الموارد البشرية والمادية، واستنزفت قدراته وبنيته الانتاجية والانسانية.
وكان المسعى من خلال من كل التطورات التي تحدث هذين العامين ان تنتهي معركة الارهاب وتعود الامور الاقتصادية الى طبيعتها، ان لم نقل بانه كان يؤمل ان يدخل الاقتصاد السوري في طور الانتعاش واعادة البناء مع ما تحمله هذه الفكرة من افاق تنموية، ولكن واقع هذه الحرب المدمرة انها نزفت الموارد البشرية النوعية في سورية ، وذهبت بالقدرة العاملة وعنصر الشباب الذي تشتت بين السفر والهجرة والخدمة العسكرية او الانخراط في البنية المجتمعية التي استهلكها الارهاب والمجالات العسكرية المختلفة لطبيعة الازمة، وبنفس الوقت تدمير اكثر من 60 بالمائة من البنية الاقتصادية الصناعية والمهنية والخدمية وخروج 30% من المدارس من الخدمة ( ستة الاف مدرسة حاليا من اصل 23 الف مدرسة) وبعد ان تم ترميم وتحسين اكثر من اربعة الاف مدرسة تضررت بفعل الازمة جزئيا او كليا بالإضافة لخسارة نصف الرقعة الزراعية (حوالي خمسة ملايين هكتار) وخروجها من الخدمة في ذروة الازمة في سورية، وتضرر وحرق اكثر من 30% من الاشجار المثمرة والحراجية في مختلف انحاء سورية، واكثر من ستين بالمائة من الثروة الحيوانية السورية ولا سيما من الابقار.
ومن جانب اخر نعلم بان هذه الحرب المدمرة قد استهلكت معظم البنية المالية والاقتصادية رغم كل مثابرة السوريين في الترميم المستمر لاعمالهم والعمل على استعادة البنية المهنية والصناعية والزراعية وتعافيها بالسرعة القصوى فقد فقدت الاحتياطات السورية من العملات الصعبة والذهب والمدخرات بالليرة السورية وظهرت بنية اقتصادية جديدة من مستفيدي الحرب او امراءها، بالإضافة لخروج اكثر من اربعين مليار دولار من ثروات السوريين الى الخارج سواء من خلال السفر او التهجير الداخلي والخارجي.
من خلال ارادة التحوط المالي وخصوصا للثروات الشخصية غير الرسمية التي لم تكن تختزن في البنية المصرفية العامة للسوريين مع العلم ان السوريين هم اكثر شعوب الارض تحوطا اقتصاديا وتنويعا في مصادر الدخل والتحوط هذا من خلال بنية التفكير التجاري والانتاجي السائد والخبرة المتراكمة الحضارية للشعوب التجارية التقليدية .
واليوم السؤال بعد ان تراجع مستوى الدخل الى ادنى مستوياته، (معاشات متوسطها خمسن دولارا ومعيشة تحتاج الى 350 الف ليرة بالحد الادنى المعيشي لاي اسرة من اربعة افراد) وظهرت مستويات للفقر تفوق ال 80 بالمائة وفقر شديد وصل الى اكثر من ستين بالمائة، ما هو الافق الاقتصادي بعد معاناة اقتصادية متراكمة خلال السنوات التسع وزاد عليها ثلاثة اشهر من شهور الاغلاق مع كورونا، حطمت قسما كبيرا من قطاع الخدمات ولا سيما المطاعم والمقاهي وقطاع الالبسة الجاهزة والطيران والنقل والتعليم ومختلف الخدمات الثقافية والانسانية.
وهل يمكن التعافي من هذه المخاطر سريعا بعد الحظر، ام سيخرج المواطن السوري (المستهلك) منهكا من اثار الحظر، ومن المسؤول عن كل هذا التراجع الاقتصادي هل هو السياسات الحكومية التي ركزت على القطاعات الحيوية الرئيسية الزراعية والاعاشية والصحية والمدارس، او هل هي من خلال نضوب الموارد وتراجع الاستثمارات، ام هي من سياسات الحصار الاقتصادي التي تعاني منها ولا تزال البينة السورية وبشكل حاد ومعززة بتهديد كبير بتطبيق قانون عقوبات كبير وخطير هو قانون سيزر .
والسؤال ايضا هل السياسات التقشفية الحكومية وضعف موازنات الاستثمار وتركيزها على القطاعات الحيوية الرئيسية مثل ترميم الخدمات الرئيسية واصلاح قطاع الكهرباء المتضرر بشكل شديد، والذي يحتاج استثمارات مركزة بقيمة عشرين مليار دولار على الاقل لاستعادة عافيته بالإضافة للتركيز على مصروفات العمل العسكري العالي التكلفة وترميم المدارس والتعليم وتامين المعاشات لأكثر من مليوني موظف ضعيفي الانتاجية بكل اشكال الوظيفة في سورية .
وكيف حصل هذا التراجع الهائل في القدرة الشرائية للسوريين حتى تحولت متوسط اجور العمل والموظفين في سورية من 500 دولار شهريا الى متوسط اجر لا يزيد عن خمسين دولار شهريا.
حين تنظر اليوم الى التراجعات الحادة لقيمة الليرة وتعرف حرمان الدولة السورية من مواردها النفطية وجزء كبير من الموارد الزراعية والخدمية ولا سيما قطاعات النقل والسياحة ومختلف الخدمات الخاصة المرتبطة بالرفاهية التي كانت سائدة ما قبل الازمة .
اليوم بعد ان صمدت سورية، وحاولت التعافي من دمار القطاعات الاقتصادية والخدمية، ولا سيما الفنادق والمطاعم والمقاهي والمعاهد والبنى المهنية والصناعات التقليدية تجد الكثير من القطاعات الاقتصادية في سورية انها تعاني بشكل حاد من خلال الغاء الاستيراد لموادها الرئيسية، ومن خلال الغلاء الاحتكاري المتسارع بالسوق، الناتج عن نقص المواد وتزايد الطلب، ومن خلال النقص الحاد في القدرات الشرائية التي جعلت السلة الغذائية للمواطن السوري تسيطر على اكثر من 80% من مجمل ايراده او معاشه خصوصا اذا علمنا بان الكثير الخدمات التي اعتادها المواطن لا يمكن الاستغناء عنها اليوم، ولا سيما الاتصالات وخدمات الانترنت وقطاع النقل والسيارات بالإضافة للمقاهي وغيرها في حال التعافي من كورونة، هذا دون الاخذ بعين الاعتبار التكاليف العالية للاجار وتكلفة الادوية وغيرها من الاساسيات .
هل كان من الحكمة التغاضي عن تراجع الكثير من القطاعات الاقتصادية وتهاويها، والاكتفاء بالتركيز على القطاعات الحيوية، ولا سيما المواد الغذائية والزراعية بشكل عام وتامين الاحتياجات المعيشية من منظفات ومعقمات واحتياجات اعاشية رئيسية ونسيان او تناسي القطاعات الخدمية والثقافية، وهل هناك خطط بديلة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة واستعادة التوازن في الاستثمار بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وخصوصا واننا الى اليوم نتعامل مع القطاعات الاقتصادية على اننا بمرحلة حرب، وهذا ما يجعل معاناة المواطن السوري تتضاعف من خلال الحظر الاقتصادي والحظر الصحي وحالة الفقر الشديد التي يعاني منها.
والاشكال الاكبر الذي يرافق هذه التحديات هو الفساد والاختلال في المداخيل الحاصل في مجالات مختلفة حيث تظهر مظاهر الاحتكار وارباح التجار ويظهر الفساد في التهريب والفساد في الخدمات الحكومية والتكاليف الكبيرة للنقل التي ترفع قيمة السلع على السوريين من خلال الترفيق او التكاليف الحمائية للنقل بأرقام كبيرة لا تتناسب مع قدرات المواطن السوري وتشكل حالة طفيلية على الخدمات الاعاشية السورية .
لقد اصبح الاقتصاد السوري بحالة ضعف واغلاق وتراجع وبعيد عن الاستثمار بشكله النوعي، ما عدا بعض الاستثمارات الزراعية والاعاشية وبحالة تشوهات بنيوية بنمو القطاعات الطفيلية على حساب القطاع الانتاجي، وحالة تغول بالقطاع الاداري وتكاليف روتينية كبيرة في القطاع الاداري ايضا، وتراجع في الخدمات التطويرية والعمرانية والاستثمارية او كل مجال خارج الاحتياجات المعيشية الرئيسية.
بدءا من تحديد الهوية الاقتصادية للاقتصاد السوري، وتطوير الخطط الاستراتيجية والرؤى في انعاش الاقتصاد الوطني الى حالة الترهل الاداري وزيادة الفساد والرشاوى، وضعف الايرادات العام الناتج عن تقلص الانشطة، وضعف الاستثمارات وتراجع القطاع الانتاجي الاستثماري، وعدم وجود خطة وطنية واضحة في قطاعات الزراعة والصناعية وتعافيها وفي مجالات الخدمات الرئيسية واولويات العمران والتعافي وخطة وطنية للتعافي الاقتصادي ان لم نقل الاعمار والتنمية، الى خطوات عملية في استعادة السيادة على الموارد واستعادة الثروات الوطنية ومحاصرة الفساد والتعامل مع تجار الحرب، والعمل على خطة وطنية استراتيجية جادة في الاستثمار في الموارد البشرية، الى رؤية استشرافية وطنية للقطاعات الواعدة في الاقتصاد السوري وبرنامج تعافيها.
ان قدرات الشعب السوري واسعة ومتنوعة، ولا سيما مع المغتربين وتحويلاتهم السخية، والتي تراجعت بشكل حاد من خلال الفروقات الكبيرة في سعرالصرف واتساع الهوة بين الاسعار المختلفة له، والسياسات غير الناجحة في تعزيز القطاع المصرفي وجذب المدخرات لها، ولا سيما مدخرات العملات الصعبة والتي يخسرها السوريون اليوم في مصارف لبنان علما انها تشكل كتلة كبيرة اقتصادية (53 مليار دولار) كان يمكن ان تكون الركيزة في مرحلة اعادة الاعمار فيما لو تم اجتذابها للاستثمار قبل ان يغلق عليها في لبنان.
وبعد كل هذه الصعوبات والتحديات المصيرية للاقتصاد تطل عليك تحديات حالات التضارب والتجاذب بين الممسكين بزمام القدرات السياسية والاقتصادية التي تؤشر من جهة على ارباك في السوق النقدي والاقتصادي وتحصيل الموارد واستعادة الرساميل والضرائب ومن جهة اخرى تضعف الثقة ولو جزئيا ومرحليا باتجاه تراجع الليرة السورية، وبالتالي القدرة الشرائية للمواطن، وتؤشر من جهة اخرة الى حالة اصلاح ومحاربة فساد، ولكنها تحدث حالة من الارباك في السوق الاقتصادي وفي مرحلة حرجة وحساسة في الواقع الاقتصادي والسياسي.
من هنا نقول هل الاصلاح المطلوب يبدأ بخطط انقاذية وطنية محلية ام هي حالة حالة توافق دولي وحلول سياسية وتغيرات في البنية العامة تؤدي الى التعافي والاستقرار في البنية الاقتصادية السورية هل نعطي الاولوية للإصلاح الاقتصادي والاداري ومحاربة الفساد ام ان واقع الحصار اليوم والضغوط الاقتصادية والسياسية وتضاؤل الموارد لا يسمح الا بالسياسات الاعاشية اي تامين الحد الادنى المتاحة من خدمات المعيشة.
الواقع يقول بان المواطن السوري عاني ويعاني وصبر ويصابر بما لا تحتمله الجبال ودفع اثمان وطنية وانسانية لم تدفعها اكثر الشعوب انهاكا في الحرب العالمية الثانية حجما وامتدادا، وبان هذا الشعب الحضاري والمقاوم لكل عوامل الموت والتحدي قد وصل الى القاع، ولم يعد امامه اي امكانيات للصبر الا بخطط وطنية جادة ونهائية في الانعاش الوطني الاقتصادي والمعيشي والاداري، هذا الشعب قادر على الانتاج وارادة الحياة ثابتة فيه، ويستحق كل مبادرات التنمية والتطوير في حمايته لمفهوم الدولة والوحدة الوطنية.
سورية غنية بمواردها ولديها قدر كبير من الامان العذائي والامان في الطاقة بالاضافة للقدرات المهنية، ولكن كفانا اهتماما بالازمات علينا تغيير السياسات باتجاه التنمية والتطوير وتوفير الظروف المناسبة لتطوير الواقع المعاشي السوري.
دمشق في 9-5-2020
الدكتور هاني شحادة الخوري