سوريا:بقلم حسان يونس/ الهرم السوري المقلوب بين التجار والحكماء

من المعروف أن الأوروبيين في اشد أزماتهم لا يفرّطون بعلمائهم وفلاسفتهم، بل إن أنظمتهم الاجتماعية والسياسية تتراجع أمام هؤلاء العلماء وتخضع لهم، فمن عن  المأثور  رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل، انه قال مرة: “لو خيرونا بين التخلي عن كل مستعمراتنا وقصائد شكسبير، لاحتفظنا بما تركه شكسبير”.، وأما الرئيس والزعيم الفرنسي شارل ديغول فقال في معرض رده على وزير داخليته حين اقترح عليه التدخل امنيا واعتقال بعض المثقفين، أمثال جان بول سارتر في أيار 1968 لضبط الحركة الطلابية الفرنسية، التي اجتاحت فرنسا، قال ديغول حينها: “فرنسا لا تعتقل فولتير”.
وعلى النقيض من تقديس الغرب للعقل الحر والانحناء أمامه، نجد أن أنظمتنا السياسية والاجتماعية مصابة بلوثة الصنمية، ورافضة لأي صوت يعبّر عن حالة عقلية تتجاوز الأطر السياسية والاجتماعية والثقافية المفروضة بقوة الاستبدادين الديني والسياسي .
ربما ينطبق هذا الوصف بشكل خاص على سنوات المقتلة السورية المنصرمة، حيث انكشفت البلاد عارية، فلا نخب فيها ترفع صوت العقل، إلا من رحم ربي، والأمر الأكثر مأساوية أن النخب القليلة المتبقّية، التي حافظت على الانتماء الوطني ورفضت الانزلاق إلى أجندات إقليمية ودولية وإسلاموية وتقسيمية، هذه النخب وجدت نفسها محاصرة في الداخل من قبل سياسة صارمة تحرص على إطفاء جذوة الصوت الحر، ولعلّ خير مثال على ذلك هو إصدار المجلس التأديبي لأعضاء الهيئة التدريسية في جامعة دمشق شهر نيسان الماضي قرارا بالنقل التأديبي للدكتور زياد زنبوعة خارج الجامعة بسبب مشاركته في ندوة جرت في غرفة تجارة دمشق ، برئاسة ورعاية كل من رئيس غرفة تجارة دمشق ورئيس جمعية العلوم الاقتصادية ونائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، تحت عنوان “الطبقة الوسطى من وجهة نظر اقتصادية وتداعيات الأزمة” في 17 كانون الثاني 2017م، حيث حذّر الدكتور زياد في مداخلته من ظاهرة أمراء الحرب ومن تفشّي السلب والنهب وجيوش المرتزقة، الأمر الذي ادخله في ملاسنة مع احد المسؤولين ممن حضروا الندوة، وكذلك تسبّب له بتقارير كيدية (وفقا لما افادنا به الدكتور زياد)، انتهت إلى أن صدر في حقّه قرار تأديبي عام 2017، ثم قرار محكمة إدارية عليا عام 2018، ثم قرار نيابة عامة على أثر مرسوم العفو 20 لعام 2019 قضى بإعادة القضية إلى مجلس التأديبي لأعضاء الهيئة التدريسية في جامعة دمشق، التي عادت واتخذت القرار الحالي الممائل لقرارها الأول، ضاربة بعرض الحائط مرسوم العفو الرئاسي العام رقم 20 لعام 2019. ما يؤكد أن مجمل هذه القرارات التاديبية ذات خلفية كيدية، لكون الدكتور زياد قد نقر على وتر حسّاس من أوتار الأزمة السورية، وهو وتر أمراء الحرب وما يرتبط بهم من فساد عمودي وافقي على كافة المستويات، فيما واقع الحال أن المصالح العليا للدول تفترض الانصياع لملاحظات العلماء والباحثين وليس توجيهات الحلقات الخفية من السلطة ذات الصلة بأمراء الحرب.
وفي سياق سياسة قتل العقل، لا بد من ذكر القرارات الصادرة بحق الدكتور منير شحود أستاذ التشريح المرضي في جامعة تشرين وفي جامعة القلمون سابقا، ففي 14 حزيران 2006 اصدر رئس الوزراء ناجي العطري قرار بصرف الدكتور منير من وظيفته كمدرّس في كلية الطب في جامعة تشرين ومن الطريف أن وزير التعليم العالي آنذاك راسل جامعة تشرين متسائلا عن خلفيات القرار المذكور ما يعني، أن هذا القرار ذو خلفية أمنية وفق ما يوضح الدكتور منير شحود في كتابه (الانفجار السوري الكبير 2011، ص 30) ووفقا لذات الكتاب (ص17) صدر قرار في 7 تموز 2010 يقضي بصرف الدكتور منير من التدريس في جامعة القلمون الخاصة، علما أن الدكتور منير شحود وفق تجربته السياسية التي يسردها في كتابه المذكور قدّم نموذجا للنقاء السياسي والحس الوطني العالي ذي دفع به إلى رفض أن يكون جزءا من معارضة الخارج المنخرطة في أجندات دولية، مفضّلا البقاء داخل البلاد في ظروف ظاغطة من مختلف الجوانب.
وبالعودة إلى الوراء ينضم إلى القائمة الدكتور عارف دليلة الذي كان أول من اعترض على صفقات الخليوي من خلال محاضراته في جمعية الثلاثاء الاقتصادي، ومن خلال دراسة قدمها في اجتماع مشترك للسلطتين التشريعية والتنفيذية لمناقشة عقود شركات الخليوي، فصُرِف من عمله كعميد لكلية الاقتصاد وحكم بالسجن المنفرد عشر سنوات (2001-2008)، والمفارقة انه بعد خروجه من السجن نشر عام 2009 مقالا تنبؤيا في موقع “داماس بوست” الإخباري، توقّع فيه ثورة شعبية في سورية لكن جرى سحبه من التداول بعد ساعات من نشره .
عندما وضع أفلاطون نظريته للمدينة الفاضلة، اعتبر أن الحكماء هم الأولى بتولي السلطة، ومن ثم تليهم طبقة المحاربين فالتجار، في سورية يقف هرم المدينة الفاضلة على رأسه، إذ يحكم سفاح العسكر مع التجار فيما الحكماء مطاردون فوق الأرض وتحتها، ورغم المسار القاسي والمؤلم لمطاردة أصوات العقل خلال العقود الماضية يظل السؤال المطروح: هل لنا أن نحلم بعودة بعض التوازن إلى هذا الهرم المقلوب وبانفتاح قمة الهرم على طبقة الحكماء والاسترشاد بملاحظاتهم كيلا تتدحرج هذه البلاد مزيدا نحو الأعماق وترتطم بالقاع وتتحطم كليا، أو يتحطّم ما تبقى منها ؟!.