يقول المثل الفارسي ” في بيت النملة تصبح قطرة الماء طوفاناً ” لكن في البيت السوري وخاصة في الجزء الشمالي منه يبدو سيل هذه القطرة تتحرك سريعاً لتطفو على هذا الجزء كله. فباجتيازك الاراضي التركية الى السورية عبر معبر ” باب السلامة أو الهوى أو جرابلس ” تصطدم بعبارة ” التآخي ليس له حدود ” مئات المرات وعلى عدة اشكال من رسومات على الجدران وتزيين الازقة والطرقات بل اصبح شعار المدارس السورية والمستشفيات والعيادات في هذه المناطق. مروراً بالمخيمات السورية في مدينة اعزاز كمخيم ” الريان ” و ” النور ” ومناطق مثل شمارين ومعرين والقسطل وغيرها المتاخمة للحدود التركية.
بالإضافة الى ذلك انتشر الشعار على نحو واسع كملصقات على زجاج السيارات وابواب البيوت بتحريض من مجالسها المحلية والعسكرية احتفاءاً بروح التضامن التركي مع النازحين والمهجرين السوريين حسب زعمهم.
لكن ماذا بعد هذا الشعار والتآخي بين المعارضة السورية الموالية لتركيا، والدولة التركية، حيث يبدو كشعار بسيط لكن تأثيره كبير وتحول لصيغة تغيير ثقافة مجتمع بأكمله.
عند العودة للفترة ما قبل الثورات والازمات في الدول العربية تحت مسمى (الربيع العربي) اقتصرت العلاقات التركية العربية على التبادل الثقافي والاقتصادي. إلا ان تركيا سعت الى مد نفوذها في المناطق العربية التي تشهد حالات الفوضى، على القوة (الناعمة والخشنة) لاستعادة استعمار البلاد العربية، إما بقواعد عسكرية بدواعي امنية او بطلب من الدول. وهي تسعى من خلال ذلك بجعلها محوراً رئيسياً في العديد من القضايا الاقليمية، بدأً من سياسة التوسع في آسيا وافريقيا ووصولاً الى ملفات الشرق الأوسط، وبحسب محللين الغرض منها اعادة امجاد الامبراطورية العثمانية في مناطق الصراعات الهشة.
فبعد القوة العسكرية لجأت تركيا الى القوة الناعمة كسلاح لترسيخ نفوذها في الكثير من البلدان وقد نجحت الى حد ما في بعض المناطق العربية عبر الوصول الى المُشاهد العربي من خلال المواد الاعلامية المختلفة كالمسلسلات الدرامية التركية، بهدف الترويج للثقافة التركية.
وفي سورية استغلت تركيا حالة الصراع والتوتر الدائر في المنطقة وعمدت الى نشر ثقافتها في المنطقة بشكل تدريجي ونجحت في المناطق ذات الغالبية العربية، والمتاخمة لحدودها عبر نشر اللغة التركية وتعليمها الى جانب العربية لجعلها في نهاية المطاف اللغة الرسمية للاجئين والمناطق المسيطرة عليها. مما يعد خطوة جامحة للسيطرة على الشعوب التي كانت تستعمرها قديماً. فاتبعت عدة اساليب للوصول الى هذه الغاية وخير مثال على ذلك المدن التي احتلتها بحجة مقاومة الارهاب والحفاظ على امنها القومي، فكانت شعار ” التآخي ليس له حدود ” خير مثال وتمهيد لطوفان الثقافة التركية على المنطقة، يمكن ترجمتها في عدة نقاط منها:
سياسة التتريك
منذ بداية النزاع السوري عام 2011 تدخلت تركيا في واقع الازمة عبر دعم المسلحين فيها، وتطور الامر لديها في العام 2016 عند شنها حملة عسكرية ضد الكرد فيها، ونتيجة حملتها سيطرت على مدن حدودية كجرابلس واعزاز والباب والراعي. وبذلك اصبح لدى تركيا موطئ قدم في سوريا وبداية للتدخل المباشر، وفي فترة لاحقة هاجمت القوات التركية مع مواليها من المسلحين مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية وسيطرت عليها، وبذلك بات النفوذ التركي يمتد من جرابلس في اقصى ريف حلب الشمالي مروراً بمدينة اعزاز شمال حلب وصولاً الى منطقة عفرين. ونشرت تركية في هذه المناطق قوات عسكرية تركية واستخبارات تابعة لها، وشرطة محلية وباتت المنطقة اشبه بولايات تركي. وبهذا تكون قد عززت نفوذها في اجزاء من شمال وشمال غرب سوريا، في محاولة منها لتتريكها تمهيداً لضمها بشكل نهائي، وباشرت الى جانب الفصائل السورية المسلحة الموالية لها على نشر الثقافة واللغة التركية واحتكار المشاريع الاقتصادية في المنطقة.
تغيير ديمغرافي
وهو وجه استعماري قديم متجدد تسعى تركيا من خلال مواصلة تتريك المناطق السورية، ولكن بشكل خاص في المناطق ذات الغالبية الكردية، والتي كانت عفرين لها النصيب الاكبر فيها، حيث خضعت لتغيير ديمغرافي ممنهج باعتراف من الامم المتحدة.
إبادة ثقافية
تبدأ بالكتب المدرسية وتغيير المناهج بما يناسب الثقافة التركية، كانت البداية في اعزاز بإضافة دروس اللغة التركية في المناهج الدراسية، ولكن نتيجة التقارب والتآخي، قرر مجلس المدينة باستبدال اللغات الاجنبية في المناهج الدراسية باللغة التركية، والتي من شأنها تضمن مستقبل الطفل بما يتناسب مع توجهات تركيا، الا انها بحسب اداري المنطقة ومعلميها ” تضمن بالتأكيد مستقبل الطفل السوري ” فعبارة ” التآخي ليس له حدود ” التي تتصدر جدار مبنى المجلس المحلي في مدينة اعزاز، وهي عبارة مكتوبة باللغتين التركية والعربية، الى جانب رسم العلم التركي مقابل راية المعارضة السورية خير مثال على ذلك.
كما تعكس انتشار اللوحات الطرقية المكتوبة باللغة التركية في هذه المدن المُحتلة مدى طغيان اللغة التركية عليها، بالإضافة الى لوحات للقرى والمناطق كنقاط استدلالية لمناطق تركية وليست سورية.
ازالة الرموز الوطنية
وهي سياسة للتتريك عبر ازالة كافة الرموز التي لها دلالات قومية او وطنية، والتي من شأنها تُحرك العاطفة ذات الميول الثقافية لسكان المنطقة، فكانت عفرين من اكثر الاماكن التي جُردت من هويتها الكردية عبر ازالة هذه الرموز وتغيير اسماء الشوارع وساحاتها الرئيسية، بالإضافة الى تحويل منازل فيها لمتاحف بحجة استخدامها من قِبل كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية خلال الحرب العالمية الاولى.
وثائق عثمانية لسرقة اراضي سورية
وهي ذريعة جديدة تقدمت بها تركيا لتبرير اقتطاعها اراضي من سوريا، عبر وثائق تعود للفترة العثمانية تثبت ملكية 15 قرية في محافظة ادلب بحسب زعمهم، حيث حشدت قواتها في خطوة لحماية هذه المناطق ” التي تعود ملكيتها لهم ” بحسب زعمهم والتي تعد انتهاكاً للقانون الدولي.
كما انها بررت سيطرتها على مناطق اخرى من سوريا بأوراق مشابهة، مثل جرابلس ومنبج، ومناطق دُفن فيها قادة عثمانيين واضرحة تعود للفترة نفسها. إلا ان هذه الاوراق لا تصبغ أي سيادة لتركيا على المناطق المحتلة من قبلها وفقاً للقانون الدولي كونها لا تستند الى قانون نتيجة معارضة الدولة السورية، فهذه المزاعم والوثائق لا تتمتع بأي مصداقية بمجرد الحيازة والتملك كما تتدعي تركيا.
مؤسسات تنموية بطابع تركي
الى جانب التواجد العسكري، وضعت المؤسسات الحكومية التركية موطئ قدم آخر لها في هذه المناطق فباشرت هذه المؤسسات عملها في هذه المناطق دون النظر الى احقية اهلها في تسيير امور مناطقهم ومن هذه المؤسسات كانت :
المديرية العامة للبريد التركية: وهي تابعة لمؤسسات حكومية تركية افتتح لها مقرات في مدينة اعزاز السورية يعمل فيها موظفون اتراك، اشبه بمدينة تركية.
شبكة كهرباء في مدينة جرابلس : وهي شركة تركية خاصة لمد تيار الكهرباء في مدينة اعزاز بموجب عقود تصل لملايين الدولارات بشهادة رئيس مجلسها المحلي، واستيلائها على مباني حكومية سابقة كمقرات رئيسية لها.
شبكات الهواتف المحمولة : منها ” تورك تيليكوم ” والتي اصبحت الشريحة الرئيسية لسكانها، ملحقة بمتاجر خاصة لبيع خطوطها. بالإضافة الى زرع ابراج اتصالات في مدن الباب واعزاز وجرابلس. بما يضمن لتركيا، دافع اقتصادي اقوى ووسيلة تنصت افضل للولوج الى الداخل السوري.
متاجر لبضائع تركيا : والتي حولت متاجر ومراكز واسواق المدن المحتلة تركياً اشبه بولايات تركية مُصغرة، ابتداءً من عرض المواد الغذائية وانتهاءً بالأدوات المنزلية والمعدات وغيرها، تشهدها اسواق اعزاز وجرابلس والباب وبشكل تدريجي عفرين حالياً.
تغيير العملات
اصبحت العملة التركية هي عملة التداول الاقوى بين العملات المتداولة في هذه المناطق، وفي بعض المؤسسات اصبحت الليرة التركية هي عملة التداول الرئيسية التي فرضها الاتراك على السوريين في مناطقهم، وبات السكان في هذه المناطق السورية يتأثرون بتراجع الليرة التركية كما يعانيه الاتراك حالياً في تركيا.
خطب دينية دعائية
عمدت تركيا الى اصلاح وترميم المساجد في هذه المناطق بالإضافة الى الاشراف على الخُطب التي تتم فيها، والتي تدعو للجهاد ضد الكرد وتثير الفتنة وتشيد براعيهم اردوغان.
الى جانب ذلك افتتحت مدارس اسلامية تركية شبيهة بمدارس ” إمام خطيب ” في المناطق المحتلة تركياً. والتي اجبرت العائلات لإرسال ابنائهم لهذا النوع من المدارس. على الرغم من تحذير مجلات عالمية كــ ” نيوزويك ” الامريكية و ” ذي ايكونوميست ” البريطانية من تدهور نظام التعليم في تركيا ضمن عناوين في صحفها ” اردوغان مقابل داروين ” في اشارة الى داروين ونظرية التطور في مناهج المدارس. الهدف منها منح الطلاب الحق في اختيار معتقداتهم. وباتت اشبه بالمدارس الكاثوليكية والبروتستانتية. واصبحت المناطق في سورية هدف لفخ هذه المدارس المنفصلة، التي تؤدي الى فصل اجتماعي حاد في شمال سورية عبر هذه المدارس. لإنشاء جيل متشدد كون هذه المدارس الدينية تضم طلاب تنتمي للفئات المُحافظة.
في نهاية المطاف يبدو المشهد في المناطق المحتلة تركياً اشبه بالوصاية التركية عليها، تسعى من خلالها ترسيخ وجودها في سوريا على المدى الطويل الى ان يتم تشريب السكان بثقافتهم بشكل فعلي لتتنقل بذلك من مرحلة المتحكم بها بفعل الامر الواقع وكجزء غير رسمي، الى اعتبارها جزءاً رسمياً من الدولة التركية.
بقلم “وليد جولي”