دمشق:بقلم الدكتور هاني الخوري/ التداعيات الاقتصادية العالمية لوباء كورونا

 

لا يمكن للخبراء الاقتصاديين ان يعزلوا آثار وباء كورونا الصحية اليوم عن نتائجه الاقتصادية والاجتماعية واثارها على العادات والرؤى الانسانية بشكل افزع العالم بشكل عميق بانه فعلا يمكن ان يفقد كل مكتسبات الحضارة وتقنياتها ويفكر بالعودة الى عالم البساطة بعيدا عن الصناعة وبعيدا عن التكنولوجيا او نعيد صياغة العالم بالشكل الذي يجعلنا ادوات او ملحقات تكنولوجيا تعيش على ايقاع الذكاء الصناعي وتطوراته وعلى افق الخدمات والمعلومات الالكترونية المعلوماتية وتصبح اقرب للنمذجة المعرفية الالية بدل الروح الانسانية التنافسية وبين عولمة وعكسها.
الواقع الاقتصادي للعالم قبل كورونا:
لقد تحول الانسان الغربي الى الة عمل وماكينة تساهم في ازدحام دولي بالمدن بانهماكات بشرية معقدة للهاث للحفاظ على الدخل والضمانات الاجتماعية واصبح الانسان الغربي يعيل اكثر من ثلاثة اشخاص بسبب ارتفاع نسبة كبار السن ونقصان متزايد للقوة البشرية الشابة او العاملة الفاعلة وهذا اللهاث للعمل والانجاز يقابلها بالمقابل نسب كبيرة من الاستهلاك علما ان معظم الاعمال في الدول الغربية التي نبذت التلوث البيئي هي طبيعة اعمال خدمية ومعرفية وتعليمية وانتقل عالم الانتاج الى عالم الانتاج الكبير في الشرق ام الغرب فيعيش حالة ضغوط اقتصادية كبيرة ناتجة عن حجم الديون العالمية وحجم التحولات في اسعار الاسهم والبورصات فكل كتلة اقتصادية او دولة او سوق اسهم تحاول تجاوز عيوب العالم الاستهلاكي والمضاربات وجشع ملوك المال والمصالح واحجام التطور الاقتصادي المالي المبني على المضاربات في الاسواق المالية والعقارات والمعادن والسلع الزراعية واسواق العقار، وبالنهاية هي عملية ذكاء بالاستثمار وليست طبيعة اقتصاد حقيقي.
ويبدو ان الخطأ الكبير لعالم الغرب الرأسمالي المتوحش والمعولم والاستهلاكي هي الحروب التي تشغل الماكينة العسكرية وتستهلك ثروات الشعوب التي لديها فوائض في المواد الاولية، ولكن بنفس الوقت يمكننا القول ان عام واسع السكان وصل الى حوالي ثمانية مليارات من البشر هو اقتصاد الاحتكار الشمالي على حساب الجنوب واقتصاد رفاهية المليار الذهبي في الغرب الاوربي والامريكي على حساب الشرق المنتج.
ولم تنجح كل محاولات امتصاص الفوائد النقدية الناتجة عن المضاربات وفوائد الاموال واسواق المال في اعطاء التوازن لاقتصاد النيوليبرالية المعيب بعمق وغير القابل للإصلاح حتى مع هذه الازمات المختلفة سواء ازمة 1987 في البورصات او ازمة النمور الاسيوية عام 1997 او ازمة انفجار فقاعة التكنولوجيا عام 2000 وازمة انهيار برجي التجارة العالمي في نيويورك في الثلاثاء الاسود عام 2001 في 11 ايلول او ازمة الرهن العقاري عام 2008 واليوم ازمة كورونا.
ازمة وباء كورونا ليست كغيرها لانها ازمة مركبة وتهدد الوجود البشري ولها ضوابط في الافزاع والخوف العالمي وحالة افراغ للاقتصاد من انتاجيته بفعل الحظر العالمي وتوقف الطيران وحركة السيارات في المدن العالمية ومعظم حركة النقل وحالة الانغلاق بين الدول وكذلك حالة اغلاق المراكز الدينية والنوادي الرياضية والمقاهي والمطاعم وكل اساليب الرفاهية في السفر والسياحة والتنقل والتسوق وتحدي العيش في المنازل المغلقة بدرجة عالية من الفزع على النوع البشري وعبر منظمة عالمية للصحة تدير الازمة بشكل مريب وكرة اتهامات تتقاذفها الامم من الصين الى امريكا الى جماعات المصالح وجماعات الضغط البيئي والمخابرات الدولية وقوى السيطرة الدولية في الظل التي سربت منذ البداية ان عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله .
العالم بين الركود والانهيار الاقتصادي:
انهيار البورصات الدولية اليوم بنسب اكبر من انهيارات ازمة الرهن العقاري ، فقدان ملايين الوظائف في امريكا وانهيار كبير لسوق النفط في العالم وتراجع كبير للصناعة في الصين في بداية الوباء ومن بعدها لمسنا السقوط الاوربي والانهيار الاقتصادي في معظم الدول الاوربية والتي لم ولن تتعافى بجرعات الانعاش الاقتصادي بواحد تريليون ونصف تريليون دولار او ضخ 2.2 تريليون دولار وتعهد دول العشرين بضخ خمسة تريليونات دولار منها تريليونين في أوربا هذه الحزم الانعاشية تزيد حجم السيولة وتوجه للشركات المتأثرة ولدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة للحفاظ على الحالة التشغيلية وموجهة لدعم القطاع الصحي ودعم تعويضات الاسر المتضررة والمياومين وفاقدي العمل، ومع ذك يبدو النفق عميقا والركود يتبلور سريعا الى حالة انهيار اقتصادي يدار على اوتار محاربة انتشار وباء كورونا وتاثيراته الصحية والانسانية والنفسية في العالم اجمع.
وهناك من يقول بان الاحداث السلبية مازالت في بداياتها، فلو انتهى الوباء اليوم، فإن اوروبا التي لم تنقذها وحدتها، والعديد من دولها اقرت بفضل الدول المساعدة الصين وروسيا والواقعة في خانة العداء والمقاطعة الاقتصادية او العقوبات الامريكية كانت اكثر وفاء انسانيا للكثير من دول اوربا التي لم تتعامل بأسلوب تشاركي ببنية الانظمة الصحية في دولها لا بل باتت تسطو على شحنات المعقمات والادوية والكمامات في ظل سيادة ثقافة النجاة الذاتية على حساب التضامن والتشارك ووحدة المصير. مما يعني ان الاتحاد الاوربي ككيان سيقع في خانة الاضطرابات الشعبية والخلافات السياسية المودية الى انفراط عقده في توجه عالمي باعادة التوجه الى البعد القومي على حساب التكتلات السياسية والاقتصادية الكبيرة التي شجعتها العولمة، فوباء كورونا قطع الدول والمدن لا بل الحارات بدرجة جعلت المسافة كبيرة بين حي واخر بعد ان تحول العالم اجمع الى قرية واحدة صغيرة.

انهيار هيكل الاقتصاد العالمي والتكوين الجديد :
تدل الوقائع على ان الركود الاقتصادي كبير ويتعمق والاثار الاقتصادية لا يمكن الشفاء منها في سنوات وان الاخطار القادمة تؤكد ان الركود الاقتصادي سيتحول انهيار اقتصادي ومالي يؤدي الى انهيار الغرب والشرق في عالم الفقر والتراجع الاقتصادي لسنوات وان هذه الديون العالمية التي وصلت الى 260 تريليون دولار وديون امريكا الداخلية التي جاوزت 73 تريليون دولار والديون الخارجية للولايات المتحدة التي جاوزت الواحد وعشرين تريليون دولار كلها تدلل على انهيارات اقتصادية كبيرة ستحصل لمعظم الدول وان اموال الاغنياء والفاسدين المكدسة في البنوك العالمية الغربية في طريقها الى الانكماش والتبخر وان العالم الاقتصادي سيصحو على انهيار اقتصادي يبنى على عملات وثقة اقتصادية جديدة مبنية على اقتصاد حقيقي وعالم تكنولوجي وقيم جديدة للاقتصاد العالمي وبعالم جديد يبتعد عن المضاربات ويقبل بأرباح مقبولة ودخول محددة وان العمل سيكون لأيام اقل للحفاظ على البيئة والسيارات والقطارات وحتى الطيارات ستصبح تعمل بوقود بيئي غير ملوث للبيئة واغلبية تعمل على البطاريات بطاريات الليثيوم الطويلة الخدمة.
عالم يسعى لخفض عدد البشر بين الاوبئة والفوضى والحروب والفقر العالمي ليقول بان عالم جديد الكتروني قائم على حكومة الكترونية عالمية قادم وبعملات الكترونية ومصانع قائمة على الروبوتات والذكاء الصنعي.
التحولات الاقتصادية والاجتماعية اليوم هي حاجة وضرورة للتغيير العالمي قد اشار اليها الباحث الامريكي ذو الاثنين وتسعين عاما تشومسكي بان العالم سيتعرض جراء كورونا لحالة تهديم عميق لبنيته وعملية اعادة بناء جديدة على اسس تقنية واقتصادية وتعليمية وبيئية جديدة .
العالم بعدما اثخن بنخب مالية واقتصادية اعتمدت المضاربات وتكديس الاموال في البنوك وضخها في قنوات عسكرية واقتصادية على حساب الانتاج الحقيقي والتنمية الحقيقية للكون فصارت الكتل المالية عبئا على التنمية المتوازنة مما يجعل التصويب المالي ضرورة على ان تكون المعالجة عميقة ونهائية وغير قابلة للتكرار بنفس الطريقة.
الخليج العربي يتوقع له تراجع الرفاهية وتراجع ثرواته وصناديقه السيادية نتيجة التهدم الاقتصادي العالمي ومعاناة ضعف الامن الغذائي ستظهر والبطالة ستسود والكفة ستعود للتوازن نحو الدول العربية ذات الاقتصاد البشري والانتاجي الحقيقي والكثير من الدول ستنهار، وخريطة تحالفاتها السياسية ستتغير والانتقال الى عالم منضبط الكترونيا ومراقب بالكاميرات الذكية وبالائتمان العالمي والعملات العالمية السائدة بدل الدولار واليورو وربما معظم العملات العالمية ذات الاساس الورقي، المبني على الاحتياطات الادخارية من الذهب والعملات الصعبة.
الازمات لا تعرف حدودا للضبط والمتغيرات ليس لها شكل واحد للتحول ويبدو معظم اسس الاقتصاد والعمل والتنمية اليوم معرضة لتغيرات واعادة صياغة جديدة، وهذه الانهيارات ستختبر معادن الاقتصادات وتوازنها البشري والانتاجي والتقني والعلمي.
لا شك بان اي اغلاق حضاري وانسداد في افق التنمية والبيئة والاساليب الاقتصادية والتنموية يتطلب رؤيا وافكار جديدة لتصنع افق يليق بالانجاز الحضاري وتطورات الانتاج والتنمية الحاصلة، ولكن ما نتمناه ان يكون للخبراء والعقلاء دور في بلورة المراحل القادمة، وان لا تكون المتغيرات الحضارية على قياس مصالح مساهمي البنك الفيدرالي الامريكي وحائزي الثروات العالمية.
ان هذه الاعوام الثلاثة القادمة لها دور كبير في بلورة المتغيرات واعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي مع اليات النظام السياسي والاجتماعي والتقني والبيئي العالمي. ونتمنى ان لا تكون هذه المتغيرات على حساب انسانية الانسان وروحانيته وطاقاته الابداعية والاجتماعية الواسعة. لقد استهلك الغرب دوره الحضاري وظهر ضعيفا في مواجهة تحديات كورونا والشرق بغناه الروحي والحضاري العميق يبدو متوثبا لقيادة العالم بانتاجيته الواسعة وقدراته المتناميةـ ليتحقق توازن طالما حلمنا به بين مادية الغرب وفوقيته وغنى الشرق وروحيته وتراثه.
دمشق في 18-4-2020
الدكتور هاني شحادة الخوري