بقلم: حسان يونس:
اشتهر الإسبارطيون القدامى بمنظومة حياة عسكرية لا تقيم وزنا إلا للقوة والقوة هنا تعني القوة البدنية القتالية، التي يجب أن يتمتّع بها الذكور، كي يكونوا منتجين ضمن منظومة الغزو والسيطرة التي تمتّعت بها إسبارطة على سواها من المدن اليونانية، وفي هذا الصدد يورد المؤرخ اليوناني بلوتارخ، في عمله “سيرة ليكورجوس”، أن الآباء كانوا يحضرون أولادهم حديثي الولادة إلى مجلس الشيوخ. حيث يتم فحص الطفل ، فإذا كان بصحة جيدة، أعادوه إلى والده لإطعامه. جنبا إلى جنب مع الطفل، اما الأطفال الضعفاء والمرضى والقبيحون، كان تم رميهم في الهاوية.
وعلى المنوال الإسبارطي قدّم التاريخ الغربي الكثير من النماذج، التي تبيح التخلّص من الفئات الهشة لصالح الفئات المنتجة القادرة على لعب دور في سيرورة بقاء المجتمع وتطوره –على اختلاف مفهوم الإنتاج بين عصر وآخر-،
من ضمن هذه النماذج ظهرت نظرية الاصطفاء الدارويني، التي سحبها بعض المفكرين الغربيين وأهمهم هربرت سبينسر على البعد الاجتماعي ضمن ما سمّي الداروينية الاجتماعية، التي تقول بتفوق نخب من الجنس البشري مقابل تخلف الآخرين، وعلى هذه القاعدة قدّم الغرب نماذج كالصهيونية والنازية والانكلوساكسونية في مسارها الاستعماري الذي اباد واستعبد عدة عشرات ملايين من البشر في العالم الجديد والقديم ممن اعتبرهم العقل الانكلوساكسوني هامشا بشريا، ومن اجل مزيد من الدقة فان الداروينية الاجتماعية تفسّر آلية تفكير كافة الجماعات الدينية والقومية المتطرّفة في العالم، ومن اللافت أن جميع الحركات الإسلامية المتطرّفة، والتي لمع نجمها في العقود الأخيرة في الشرق الأوسط ترتبط بعلاقة أواصر قربى مع السياسات الغربية وتلعب دورا وظيفيا لا ينقطع في خدمة هذه السياسات ذات التوجه الدارويني، وكان آخر هذه الأدوار تجييش بعض حركات الإسلام السياسي احتجاجا على الممارسات الصينية في إقليم الويغور التركماني المسلم .
وبالتوائم مع الداروينية الاجتماعية ظهرت النظرية المالتوسية. القائلة بضرورة ضبط عدد سكان العالم من خلال إحداث كوارث تتخلّص من “الهامش البشري”، وقد أجملت الكاتبة الكندية نعومي كلاين الكثير من السياسات الأمريكية ذات البعد المالتوسي الدارويني في كتابها “عقيدة الصدمة: صعود رأس مالية الكوارث”، وهي سياسات طالت هوامش بشرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية كما خارجها.
إن الفئات الهشّة التي تتجمّع لتصبح هامشا بشريا يجب إزالته، قد تكون ذات أبعاد دينية أو مذهبية أو عرقية أو قومية أو قد تكون ذات بعد إنتاجي خالص. خاصة في عالمنا المعاصر حيث سقطت القوميات والإيديولوجيات، وصمد فقط السوق، وفي عالم السوق الذي لا يقيم وزنا للإنسان إلا بقدر إسهامه في دورة الإنتاج، في هذا العالم تقول الإحصائيات أن الغرب عموما وأوروبا بشكل خاص تعاني من نسب شيخوخة عالية، حتى تكاد تكون المجتمعات الأوروبية في طريقها إلى الموت، وهو ما يفسّر استقبال أوروبا عدة ملايين من اللاجئين السوريين خلال السنوات الماضية لملء هذه الثغرة الديمغرافية.
حول هذه النقطة يورد باتريك جيه.بوكانن في كتابه “موت الغرب، اثر شيخوخة السكان وموتهم وغزوات المهاجرين على الغرب” أن عدد سكان أوروبا (بما في ذلك روسيا) في عام 2000 بلغ 728 مليون نسمة ومثّل حوالي سدس سكان العالم أما في العام 2050 فمن المتوقع أن ينخفض عدد سكان أوروبا إلى 600 مليون نسمة ليشكّل قرابة عشر سكان العالم الذي سيبلغ حينذاك 9 مليارات وستكون معدلات الخصوبة لدى الأوروبيين هي الأسوأ، إذ انه من المتوقع أن لا تتجاوز 1.38 للمرأة، ولن تستطيع تعويض الفاقد البشري من الوفيات في مقابل تزايد نسبة العجائز بين الأوروبيين حيث بلغ متوسط نسبة كبار السن فوق الثمانين عام ( 5-6)% وفقا لتقرير أوردته قناة فرانس 24 في 30 أيلول 2016 .
كما أظهر تقرير صادر عن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي والمفوضية الأوروبية ارتفاعا في معدلات أعمار سكان الاتحاد الأوروبي حيث تضاعفت نسبة من تزيد أعمارهم عن 65 عاما منذ عام 1960، فقد ارتفعت نسبة السكان الذين يزيد عمرهم عن 65 عاما في الاتحاد الأوروبي من أقل من 10 % سنة 1960 إلى ما يقرب من 20 % في 2015 على أن تقارب هذه النسبة 30 % بحلول 2060.
إذا ما أضفنا إلى الأرقام الواردة أعلاه حقيقة أن فايروس الكورونا يفتك بشكل اصطفائي دارويني بكبار السن وذوي الأمراض المزمنة، مضافا إلى ذلك أن سياسات مواجهة الوباء في أوروبا أصبحت تركّز على إنقاذ الشباب وصغار السنّ تاركةً كبار السن وذوي الأمراض المزمنة يواجهون القدر، إذا ما أخذنا ما سبق بالاعتبار، فان نبوءة باتريك جيه.بوكانن حول “موت الغرب” تكون اقرب إلى التحقق، خاصة وان الخصوبة الطبيعية للأوروبيين لم تعد قادرة على تقديم البدائل لهذا النزيف الديمغرافي، يضاف إلى ذلك أن المهاجرين القادمين من الشرق والشرق الأوسط خاصة ليسوا بديلا ديمغرافيا موثوقا، اللهم إلا لتلبية احتياجات السوق العمل .
هكذا يكون العالم ما بعد الصناعي قد قتل خصوبة الإنسان الأبيض إلى حد ما، تاركا إياه يواجه قدره المحمول على أجنحة الكورونا .