ا
استغلت الدول الأوروبية ولاسيما إنكلترا وفرنسا وروسيا دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب العالمية الأولى في 2 تشرين الثاني 1914، للإجهاز عليها واقتسام ممتلكاتها. وبدأت هذه الدول تخطط لكيفية تقسيم هذه الدولة المتفسخة والمترامية الأطراف، والتي عجزت لأكثر من قرن من القيام بإصلاحات حقيقية تساعدها على بناء مؤسسات عصرية، وتحول دون انهيارها. وبعد أقل من عام على بدء الحرب توصلت إنكلترا وفرنسا إلى عقد اتفاقية سايكس – بيكو 1916 بعد الحصول على موافقة روسيا ثم إيطاليا، وذلك بتقسيم تركيا الآسيوية إلى خمس مناطق، تم بموجبها وضع لواء الموصل (كردستان العراق ) وجنوب غرب كردستان ( عنتاب، أورفة، ماردين، هكاري ) وكيلكيا تحت السيطرة الفرنسية. ومنح المناطق الباقية من كردستان مع أرمينيا الغربية إلى روسيا. ولكن بعد انسحاب روسيا القيصرية من الحرب إثر قيام الثورة الاشتراكية فيها عام 1917، تغير موقف كل من إنكلترا وفرنسا وبقية الدول الاستعمارية من كردستان وأرمينيا، وبالتالي من تقسيم الإمبراطورية العثمانية، أي تحول التفاهم والاتفاق السابق إلى صراع على إعادة توزيع الغنائم.
وقد تبلور هذا الصراع بين الدول الاستعمارية على كردستان وأرمينيا أكثر خلال مؤتمر الصلح الذي انعقد في باريس في الفترة بين 18 كانون الثاني 1919 ولغاية 21 كانون الأول من عام 1920، والذي جاءت معظم قراراته لصالح الدول الاستعمارية الكبرى، خاصة إنكلترا وفرنسا. وقد حضر المؤتمر مندوبون رسميون من ثلاث وثلاثين دولة، من بينها وفدان من الأرمن، أحدهما برئاسة اواديس اوهانيان Awadîs Ohanyan ممثل حزب طاشناق والجمهورية الأرمنية التي أعلنت استقلالها بعد انسحاب روسيا من الحرب، والثاني برئاسة الوزير بوغوص نوبار باشا Bogos Nûbar Başa الوزير المصري السابق الذي كان يمثل أرمينيا الغربية، أي المقاطعات الأرمنية الواقعة في الأراضي التركية، وقد اعترف المؤتمر بعد افتتاح أعماله بالجمهورية الأرمنية كإحدى الدول الحليفة المنتصرة في الحرب.
كما شارك في المؤتمر بشكل غير رسمي وفد كردي صغير برئاسة الجنرال شريف باشا* الذي كان متواجداً في باريس مع بعض السياسيين الكرد المعارضين للاتحاديين ( حزب الاتحاد والترقي التركي ) في الخارج، وانتخب لرئاسة الوفد الكردي من قبل حزب استقلال الكرد، والجمعية الكردية، والحزب الديمقراطي الكردي، بتمثيل الكرد في أعمال المؤتمر.
ورغم اهتمام الإنكليز بالوضع في كردستان، وبالقضية الكردية، إلا أنهم اتخذوا موقفاً سلبياً من الجنرال شريف باشا، بحجة أنه لا يملك قاعدة شعبية في كردستان، ورغم اجتماع وفد إنكليزي رسمي به في مدينة مرسيليا الفرنسية، إلا أن موقفهم لم يتغير من الجنرال شريف باشا.
ورغم صغر حجم الوفد الكردي إلا أنه لعب دوراً متميزاً للتعريف بالقضية الكردية، في خضم صراع الدول الكبيرة على افتراس كل ما يمكن افتراسه، من خلال عرض المطالب الكردية على أعضاء المؤتمر من جهة، وعلى جدول أعمال المؤتمر بشكل رسمي من جهة ثانية، حيث قدم شريف باشا بوصفه رئيسا للوفد الكردي مذكرتين وخريطتين إلى مؤتمر الصلح تضمنتا (( المطالب المشروعة للأمة الكردية في تأسيس دولة مستقلة، وفق مبادئ الرئيس الأمريكي ولسون، في حق كل أمة بتقرير مصيرها بنفسها كما طالب بتشكيل لجنة دولية لدراسة أوضاع الأكراد، ومناطق سكناهم، لضم المناطق التي يؤلف فيها الأكراد الأكثرية ومنها كردستان الشرقية – الإيرانية – إلى الدولة الكردية. )) 1.
وكان للبيان المشترك الذي أصدره مع نوبار باشا صدى إيجابي في كواليس المؤتمر في باريس، وفي كردستان وأرمينيا، ووقع الصدمة على الوفد التركي، وعلى حكومة استانبول. وقد جاء فيه : (( إننا بالاتفاق التام معاً نناشد مؤتمر السلام منحنا السلطة الشرعية، وفق مبادئ القوميات، لكلٍ من أرمينيا المتحدة والمستقلة وكردستان المستقلة، وبمساعدة إحدى الدول الكبرى، فضلاً عن ذلك فإننا نؤكد اتفاقنا التام باحترام الحقوق المشروعة للأقليات في كلتا الدولتين .)) 2.
وفي الوقت الذي حاول كل من الأرمن والكرد خلال هذا المؤتمر تحقيق أمانيهم القومية بالاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية، معتمدين على وعود بريطانيا، وعلى مبادئ الرئيس الأمريكي ولسون في حق الشعوب بتقرير مصيرها ولاسيما المادة الثانية عشرة من المبادئ التي جاء فيها:
( أما القوميات الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي فيجب أن يضمن لها اطمئنان على الحياة لا شك فيه وفرصة مطلقة مصونة لتطوير الاستقلال الذاتي… ). أما الدول الاستعمارية الكبرى، التي وإن خرجت من الحرب منتصرة، إلا أنها كانت منهكة اقتصادياً، لذلك كانت تسعى للحصول على أكبر حصة من الغنائم، في سبيل إعادة ما دمرته الحرب من جهة، وللسيطرة على مستعمرات جديدة تكون مصدراً للمواد الأولية لصناعاتها وسوقاً لتصريف منتجاتها من جهة أخرى.
وقد أثيرت قضية الشعبين الكردي والأرمني والعلاقة بينهما خلال جلسات المؤتمر بشكل رسمي، كقضية يجب وضع الحلول المناسبة لها، أومن خلال الاتصالات الجانبية بين الدول المشاركة في أعمال المؤتمر من قبل الوفدين الكردي أو الأرمني.
وكان للوفد الأرمني وللقضية الأرمنية حضور ودور فعال في المؤتمر. إذ كانت القضية الأرمنية حاضرة بقوة في جدول أعمال المؤتمر، أثناء مناقشة تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية، وذلك لنشاط الوفد الأرمني، ولتأثير صدى مذابح الأرمن على الوفود المشاركة في أعمال المؤتمر، التي كانت تشعر بعقدة الذنب لعدم قيامها بتقديم المساعدة لهذا الشعب أثناء عملية الإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات التركية في بداية الحرب العالمية الأولى، لذلك دافعت جميع الدول المشاركة في المؤتمر عن ضرورة استقلال أرمينيا، وضرورة انفصالها عن تركيا. بالإضافة إلى دفاع الوفد الأمريكي ورئيسه الرئيس الأمريكي ولسون بقوة عن استقلال أرمينيا وكردستان، ورغبة الولايات المتحدة الأمريكية بالانتداب على أرمينيا وكردستان، هكذا كانت الأجواء ايجابية في المرحلة الأولى من انعقاد المؤتمر، إلا أن انسحاب الوفد الأمريكي والرئيس ولسون من المؤتمر بعد هزيمة حزبه في الانتخابات النيابية الأمريكية، وفقدان الأغلبية في الكونغرس الذي عارض التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، اضعف الموقفين الكردي والأرمني في المؤتمر بفقدان دولة قوية مدافعة عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وراغبة كذلك في الانتداب على أرمينيا وكردستان، وبانسحاب الوفد الأمريكي انفردت إنكلترا وفرنسا بالسيطرة على المؤتمر وقراراته، فعرضت فرنسا على إنكلترا تعديل اتفاقية سايكس – بيكو وإعادة تقسيم المنطقة مجددا بين الدولتين بعد التغييرات العامة في الموقف الدولي والمنطقة، وذلك إثر تخلي روسيا عن امتيازاتها ومطالبها في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك انسحاب أمريكا من المؤتمر، بالإضافة إلى استياء إيطاليا نتيجة إهمالها وعدم رعاية مصالحها كما يجب، وبما يتناسب مع كل ما قدمته من تضحيات وخسائر خلال الحرب العالمية الأولى.
وقد رفضت إنكلترا التي كانت تسعى لإقامة دولة كردية موحدة، أو مجموعة من الإمارات الكردية تخضع معظمها للانتداب البريطاني , أول الأمر هذا الاقتراح، ورداً على المشروع الفرنسي قدمت مشروعاً خاصاً برؤيتها لآلية الحل في كردستان وأرمينيا، تضمن مجموعة من النقاط منها : ((
1 – لا للانتداب على كردستان، سواء أكان هذا الانتداب إنكليزياً أو فرنسياً، أو الانتداب الإنكليزي – الفرنسي المشترك على كردستان ككل، عدا المناطق الأكثر استقرارا والمأهولة في كردستان الجنوبية حيث يحتمل ذلك.
2 – يجب ألا تستمر السلطة التركية على كردستان حتى ولو كانت سلطة شكلية.
3 – أن الأكراد قادرون تماما على تحقيق اتفاق عملي مع الآثوريين من جهة، ومع الأرمن من جهة ثانية. وبسبب هذا يجب ألا يجري قرار بشأن المسألة الكردية بمعزل عن إنشاء الدولة الأرمنية، التي اتفق على إنشائها البريطانيون والفرنسيون.
4 – يجب أن يسمح للأكراد ليقرروا بأنفسهم فيما إذا كانوا يشكلون دولة واحدة، أو عددا من الكيانات الصغيرة، التي ترتبط فيما بينها بخطوط واهية.
5 – يجب إعطاء الضمان للأكراد إذا أمكن ذلك ضد الاعتداء العثماني. )) 3.
وقد وافقت فرنسا من حيث المبدأ على المقترح الإنكليزي، وخاصة في الموقف من القضية الكردية، حيث كانت متأكدة من أن إنكلترا لن تتخلى عن منطقة الموصل خاصة بعد الانفراد بتشديد قبضتها على ( لواء الموصل ) في كردستان العراق بعد اكتشاف النفط فيها، والتي كانت ضمن منطقة النفوذ الفرنسية بموجب الصيغة النهائية لاتفاقية سايكس – بيكو 1916، لذلك أرادت أن تساومها في الانتداب الفرنسي على معظم أرمينيا وقسم من كردستان بالإضافة إلى الانتداب على سورية ولبنان.
ورداً على العرض الفرنسي أرسل شريف باشا رئيس الوفد الكردي في المؤتمر رسالة إلى الرئيس الفرنسي كليمنصو بوصفه رئيساً لمؤتمر السلام، طالب فيها بعرض وجهة النظر الكردية على ( المجلس الأعلى للمؤتمر ) أعلن فيها رفضه لفكرة تقسيم كردستان، وبعد أن استلمت السكرتارية العامة للمؤتمر رسالة شريف باشا عرضت على المجلس الأعلى للمؤتمر مذكرة تضمنت ما يلي :
(( باريس في 22 تشرين الأول 1919
مؤتمر السلام:
إن السكرتارية العامة لمؤتمر السلام لها شرف استلام رسالتين من بعض الشخصيات الكردية إلى رئيس مؤتمر السلام بخصوص مستقبل بلادهم.
السكرتارية العامة
إلى جورج كليمنصو رئيس مؤتمر السلام.
باريس في 22 تشرين الأول 1919
السيد الرئيس :
لي الشرف أن انقل لسيادتكم رسالتين من السيد عبد القادر أفندي _ الشمزيني، الشمديناني- عضو مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس الدولة – العثمانية – سابقاً، بصفته رئيس اللجنة المركزية للجمعية الكردية لأجل عرضها على المجلس الأعلى لمؤتمر السلام.
واسمحوا أن أضيف أنه ومنذ حصول حزب الاتحاد والترقي على السلطة، فإن جميع من كانوا يحملون آمال الحرية القومية تعرضوا للاضطهاد المستمر، وأنه من الواجب الإنساني للمجلس الأعلى أن يمنع إراقة الدماء مجدداً. وأن السبيل الآخر لضمان السلم في كردستان هو التخلي عن مشروع تقسيم هذه البلاد إلى قطاعين بين انتدابين. – ثم طالب بوضع البلاد تحت انتداب دولة عظمى واحدة لتصبح عاملا للسلم والنظام -.
( الرسالة الأولى ).
استانبول 2 تشرين الأول 1919
السيد الرئيس :
إن الشائعات التي تروج عن تقسيم كردستان إلى قطاعين ( في تركيا العثمانية )، ووضعهما تحت توجيه دولتين كبيرتين. تحدو بي لأن أوجه نظر سيادتكم إلى أن هذه التجزئة لا تخدم السلم في الشرق الأدنى. إن الأكراد هناك على النقيض من حكومة الاتحاديين، رفضوا محاربة قوات الحلفاء، وشملوا الأرمن بحمايتهم في المناطق التي كانت تحت السلطة العثمانية، فالأكراد يتمنون من عدالة المؤتمر الاعتراف ببلدهم موحدا غير مجزأ.
عضو مجلس الشيوخ العثماني
السيد عبد القادر
رئيس اللجنة المركزية للجمعية الكردية. ))4 .
وأشارت الرسالة الثانية والتي كانت أيضاً من السيد عبد القادر الشمزيني والتي حملت هذه المرة فقط صفة رئيس اللجنة المركزية للجمعية الكردية، إلى المظالم التي يتعرض لها الشعب الكردي، ودعا فيها الدول الكبرى إلى التدخل لدى السلطات التركية لإيقاف اضطهادها للكرد. كما أشار إلى أن اللجنة الدولية للتحقيق في رغبات السكان، والتي من المزمع أن يرسلها المؤتمر إلى المنطقة لن تتمكن من القيام بمهامها في الظروف الحالية، بسبب أعمال القمع والتنكيل التي تقوم بها السلطات التركية.
وحاول الوفد التركي في المؤتمر بعد أن تأكد من أن الدول الأوروبية لن تتخلى عن استقلال أرمينيا، التمسك برفض انفصال كردستان عن الدولة التركية، وسعى جاهداً إثارة الخلافات بين الوفدين الكردي والأرمني. وفي هذه (( الأجواء التآمرية على قضايا الشعوب التي كانت تتطلع في هذا المؤتمر إلى نيل حقوقها، ولتفويت الفرصة على المتآمرين لاستغلال الخلاف المزعوم بين الشعبين الكردي والأرمني، جرى على هامش أعمال المؤتمر صياغة اتفاقية تفاهم بين الوفدين الكردي والارمني في تشرين الثاني 1919)) 5، حول معظم القضايا الخلافية، إلا مسألة الحدود التي تركاها للمؤتمر وللجنة الدولية التي سترسل إلى المنطقة لمعرفة رغبات السكان. وقد وجه رئيس الوفد الكردي ورئيس الوفد الأرمني الموحد رسالة مشتركة إلى الرئيس الفرنسي كليمانصو بوصفه رئيساً لمؤتمر الصلح تضمنت : ((
باريس 20 تشرين الثاني 1919
سيادة الرئيس
يسعدنا أن نسلمكم طياً نسخة من كتاب معنون إلى مؤتمر السلام الموقع من قبلنا ممثلي الوفد الأرمني الموحد والوفد الكردي في مؤتمر السلام.
إن سيادتكم يرى أنه على النقيض من تأكيدات خصومنا الذين يزعمون أن الأرمن والأكراد لا يستطيعون العيش بسلام، فإننا عقدنا اتفاق صلح، على ضوء تحقيق أهدافنا القومية التي هي مقياس للمستقبل، فنرجو قبول.. احترامنا الفائق
رئيس الوفد الكردي في مؤتمر السلام شريف باشا
رئيس الوفد الوطني الأرمني بوغوص نوبار
وفيما يأتي نص الاتفاق :
الوفد الكردي الموحد: 12 شارع الرئيس ولسون باريس
الوفد الأرمني الموحد: 12 شارع الرئيس ولسون باريس
باريس 20 تشرين الثاني 1919
سيادة الرئيس:
نحن الموقعين أدناه، الممثلين للشعبين الأرمني والكردي، لنا الشرف أن نبلغ مؤتمر السلام، فشعبانا لهما نفس المصالح، ويرميان إلى نفس الأهداف، ويدركان حريتهما واستقلالهما وبالأخص للأرمن وانعتاقهم من السيطرة القاسية للحكومة العثمانية، أي تحررهم من نير الاتحاد والترقي. ونحن موحدون جميعاً في الطلب من مؤتمر السلام أن يقرر استناداً على قاعدة مبادئ القوميات خلق أرمينيا موحدة مستقلة وكردستان مستقلة مع المساعدة من إحدى الدول العظمى.
عن كردستان شريف باشا
رئيس الوفد الكردي في مؤتمر السلام.
بوغوص نوبار الرئيس المؤقت لوفد الجمهورية الأرمنية.
د. اوهانيانيان رئيس الوفد الوطني الأرمني. ))6 .
وقد رحبت الأوساط والجمعيات الكردية بهذا الاتفاق ونشرت جمعية التعالي لكردستان بياناً عن هذا الاتفاق وردود الفعل عليه جاء فيه : (( فيما يتعلق باتفاق شريف باشا مع نوبار باشا، فإن شريف باشا لم يحقق خلال حياته السياسية مثل هذا النجاح السياسي الذي يستحق التقدير
استطاع الباشا تحقيق نجاح المبادرة التي بدأت في تركيا. واستطاع نيل تقدير الأكراد جميعاً.
تستند هذه الاتفاقية إلى أساس عدم قيام الأكراد والأرمن بأي نشاط ضد بعضهما، لأن سعادة وأمن الشعبين الجارين ترتبطان باحترام حقوقهم الشرعية، وليس بنزاعهم، ولا داع للتوضيح كم سيستفيد الأكراد من هذه الاتفاقية.
وفيما يتعلق بالأرض المختلفة عليها، فإن هذه المشكلة سيتم حلها عن طريق تحويلها إلى لجنة التحكيم. يجب أن يطمئن العالم الإسلامي لأعمال شريف باشا المكرسة للدفاع عن حقوق الأكراد الشرعية. كما أن هذه الاتفاقية أثرت تأثيراً ايجابياً على الرأي العام الأمريكي والإنكليزي والفرنسي.)) 7.
ونشرت جمعية استقلال كردستان التي ساهمت في إرسال شريف باشا إلى مؤتمر الصلح، والتي أيدت بدورها اتفاقه مع الأرمن، كتيّبا ًبعنوان ((كردستان وأرمينيا تضمن الموافقة على الاتفاق الكردي – الأرمني ))8 .
وقد تلقت إنكلترا هذا الاتفاق بارتياح واستغلته لتنفيذ مخططاتها في المنطقة، ولتعزيز موقفها تجاه فرنسا بالاستفادة من الموقف الكردي والأرمني المؤيد لإنكلترا حتى أن (( اللورد كيرزون أصدر تعليمات خاصة إلى المندوب السامي البريطاني في استانبول السير ج.دي. روبيك بإبداء كل تشجيع ممكن للاتجاه الجديد، أي للتعاون الأرمني – الكردي.))9 .
وبعد تنامي قوة الكماليين العسكرية التي أخمدت انتفاضة الأكراد في ملاطيا، وسيطرت على مناطق واسعة في تركيا، حاولت الالتفاف على الاتفاق الكردي – الأرمني من خلال إصدار الميثاق الوطني ( ميثاق مللي ) بالتأكيد على (( الاستقلال والحرية التاميين لجميع الأقاليم الآهلة بأغلبية تركية، على أن يقرر مصير سائر أجزاء الإمبراطورية عن طريق الاستفتاء. ))10 . ونتيجة المطالبة التركية وكذلك الإيرانية بالسيطرة على كردستان، سارعت بريطانيا إلى تسوية وضع كردستان بينها وبين فرنسا، وإعداد اتفاقية الصلح مع تركيا، وتوصلت الدولتان إلى الاتفاق النهائي على ذلك في مؤتمر سان ريمو في 24 نيسان 1920 في إيطاليا، وتمت الموافقة على مشروع المعاهدة التي تقدمت بها بريطانيا والتي تضمنت : ((
1 – سوف تعمل لجنة مؤلفة من ممثلي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا في استانبول بعد ستة أشهر من سريان مفعول هذه المعاهدة التركية السلمية، وضع مخططات (للإدارة الذاتية المحلية) للأراضي الواقعة إلى الشرق من نهر الفرات، وإلى الجنوب من حدود أرمينيا الجنوبية التي يسكنها الأكراد، ويجب أن يستدرك المخطط حماية الآشوريين – الكلدان، وغيرهم من الأقليات العرقية والدينية في الأراضي المشار إليها. كما سيتم تشكيل لجنة من ممثلي بريطانيا وفرنسا وإيران والأكراد ( للإصلاحات ) على الحدود التركية، وخاصة على الحدود الفارسية.
2 – تتعهد الحكومة التركية بقبول توصيات اللجنة خلال ثلاثة أشهر بعد عرضها عليها.
3 – إذا توجه ( الشعب الكردي ) في الأراضي المشار إليها بعد عام من سريان مفعول المعاهدة التركية السلمية، إلى عصبة الأمم بطلب الاستقلال عن تركيا باسم الأكثرية وإذا قرر المجلس أن هذا الشعب ( كفؤ لهذا الاستقلال ) ويوصي به، فإن تركيا تتعهد بتنفيذ هذه التوصية بعد أن تتنازل عن جميع حقوقها في هذه الأراضي، ويتم الاتفاق على التفاصيل وبصورة مستقلة بين تركيا ورؤساء الدول الكبرى الموقعين على هذه المعاهدة.
4 – وفي مثل هذه الحالة لن تعارض دول الحلفاء الكبرى انضمام الأكراد القاطنين في ولاية الموصل إلى الدولة الكردية المستقلة.)) 11.
وبالتوقيع على هذه المعاهدة، ومن ثم تقسيم مناطق النفوذ بين الدول الكبرى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، تم رسم الخطوط العريضة لمعاهدة الصلح مع تركيا، وصياغة الاتفاقية الأخيرة من سلسلة اتفاقيات مؤتمر السلام والتي تعرف بـ ( منظومة فرساي 1919- 1920 ) وهي معاهدة سيفر.
وقد أعدت هذه المعاهدة خمس لجان متفرعة عن مؤتمر باريس وتألفت من 13 باباً و 433 بنداً، وقد أخذت القضية الكردية مكاناً هاماً في هذه المعاهدة إذ خصص القسم الثالث من الباب الثالث من المعاهدة لمعالجة المسألة الكردية، وحمل عنوان ( كردستان ) وتألف من البنود / 62- 63 – 64 / التي هدفت لإنشاء دولة كردية مستقلة في تركيا، كما يمكن أن ينضم إليها كرد كردستان العراق ( ولاية الموصل ) إذا أرادوا ذلك.
أما الباب السادس فقد خصص للقضية الأرمنية وتألف من البنود / 88 -89 – 90- 91 – 92 -93 /، وقد أكد البند 88 على استقلال جمهورية أرمينيا وتضمن: ( تعترف تركيا، وفقأ للإجراء الذي اتخذته الدول الحليفة، بأرمينيا دولة حرة مستقلة)، وتطرقت البنود من 89- 92 المعاهدة إلى آلية رسم حدود الدولة الأرمنية، استناداً إلى توصيات اللجنة أرسلها الرئيس الأمريكي ولسون برئاسة جيمس هاربورد لدرس المسألة الأرمنية، والتي زارت آسيا الصغرى، وبعض المناطق الكردية. أما البند 93 فتطرق إلى حماية الأقليات والتجارة الحرة في أرمينيا وتضمن: ( تقبل أرمينيا وتوافق على إن تتضمن معاهدة تعقدها مع الدول الحليفة الرئيسة ما قد تراه هذه الدول ضرورياً من نصوص لحماية سكان تلك الدولة ممن يختلفون عن غالبية السكان من حيث العرق أو اللغة أو الدين.
وتقبل أرمينيا كذلك وتوافق على أن تتضمن معاهدة تعقدها مع الدول الحليفة الرئيسة ما قد تراه هذه الدول ضرورياً من نصوص لحماية حرية الترانزيت والمعاملة المتساوية لتجارة الدول الأخرى. )12.
كما تم التطرق إلى وضع الأرمن والكرد في القسم المخصص لحقوق الأقليات في البنود من 140 وحتى 151 وأهم بنود هذا القسم هو البند 145 والذي وإن لم يسم الكرد أو الأرمن بالاسم إلا أن الإشارة إلى الشعبين كان واضحاً وتضمن: ( أن جميع الرعايا في الدولة التركية سواسية في نظر القانون، ويتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية ذاتها من غير تمييز في العرق أو اللغة أو الدين.
إن الاختلاف في الدين أو المذهب أو الطائفة لا يسيء إلى أي مواطن في تركيا فيما يتعلق بالتمتع بالحقوق المدنية أو السياسية، كالاستخدام والتعيين في الوظائف العامة أو الألقاب أو ممارسة المهن والصناعات.
وخلال سنتين من بدء العمل بهذه المعاهدة، تقدمت الحكومة التركية إلى الدول الحليفة بمشروع قانون للانتخابات على أساس مبدأ التمثيل النسبي للأقليات العرقية.
لا يفرض أي قيد على استعمال الرعية التركية الحر لأي لغة في الأحاديث الخاصة أو التجارة أو الدين أو الصحافة أو المطبوعات من أي نوع كان أو في الاجتماعات العامة. وتعطى تسهيلات مناسبة للرعايا الأتراك الذين لا يتكلمون التركية لاستعمال لغتهم الخاصة شفاهاً أو كتابةً أمام المحاكم).
وقد سميت هذه المعاهدة بمعاهدة سيفر نسبة إلى مدينة سيفر الفرنسية القريبة من باريس، والتي تم التوقيع عليها في (( 10 آب 1920 بين إنكلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان وبلجيكا واليونان ورومانيا وبولونيا والبرتغال وجيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا والحجاز وأرمينيا من جهة، والإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى )) .
وإذا كانت هذه المعاهدة ( قد أعطت الكثير للأرمن على الورق ) إلا أنها استطاعت انتزاع اعتراف الدول الكبرى بالاستقلال الأرمني، وخلقت جداراً من الردع الدولي لحماية الجمهورية الأرمنية الفتية.
أما بالنسبة للكرد فقد كانت مجرد وعود، ولم تحقق الأماني الوطنية للشعب الكردي الذي نظر إلى وعود الدول الكبرى على أنها قرارات سوف تنفذ وتطبق بالقوة
ولكن سرعان ما تبين له أن تلك المعاهدة التي ولدت ميتة لم تكن سوى تسوية بين الدول الكبرى، حيث حاولت كل دولة من خلالها ومن خلال غيرها من المعاهدات والتفاهمات الحصول على أكبر قدر من المكاسب. ووجدت فيها فرصة لترسيخ وتعزيز نفوذها في المنطقة، للانطلاق منها إلى السيطرة على مناطق أخرى، دون إعطاء أي قيمة أو اعتبار لمشاعر أو لأماني الشعوب، التي وجدت في معاهدة سيفر الخلاص لتحقيق أمانيها بالتخلص من الاستبداد العثماني، وإنشاء كيانات خاصة بها. ولكن سرعان ما تحطمت أمانيهم وآمالهم على صخرة الواقع كتحطم خزف سيفر*.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* – هو محمد شريف بن سعيد باشا بن حسين باشا بن أحمد آغا الخندان، ولد في استانبول عام 1865، لأسرة كردية شهيرة، تسنمت الكثير من الوظائف العليا في الدولة العثمانية، فكان والده وزيرا للخارجية العثمانية، ثم رئيسا لمجلس شورى الدولة. وكان أخوه عزت وزيراً للأوقاف. وقد عين شريف باشا 1898 وزيرا مفوضا للدولة العثمانية في استوكهولم، وظل في منصبه إلى عام 1909، وبعد إعلان الدستور العثماني عاد إلى تركيا وانخرط في صفوف الحركة الوطنية الكردية وشارك في تأسيس جمعية تعالي كردستان مع أمين عالي بدرخان. وبعد انعقاد مؤتمر الصلح انتخب ممثلا للكرد إلى المؤتمر.
1- ( عثمان ) فارس المثقف التقدمي. العدد 13، ص42.
2- ( مكدول ) تاريخ الأكراد الحديث، ص218.
3 – د. ( أبو بكر ) أحمد عثمان.. كردستان في عهد السلام، ص 58. وكذلك. د. (مظهر). كردستان، ص341.
4- د. ( أبو بكر). كردستان، ص 240.
5 – ( عثمان ).المثقف، ص43.
6- د. ( أبو بكر ). كردستان، ص 134.
7 – ( مالميسانژ).. البدرخاني…