يحل بالمرء رأي، يقف عنده طويلا، لا يعي مداخله، ولا يتعشّق مداخل حلّه، مرجعا صداه مرات عدة، في تقلبات نفسه وفي عمق عقله، ثم ينزو إلى زاوية ينفذ الضوء منها قليلا، يتربّص من خلاله ثمة ساقية لبذور فكرة الحل، فيرسم خيوط حكاية طويلة كانت تتردّد في صمته المطلق، وقتذاك وفي الوحدة الفكرية لعقله، يلجأ إلى حكيم رأي يبادله طريق الحلول، فيتحاور الفكران في اعتصار وسائل العقلين في ردهة النقاش، فيقدمون الأدلة والحجج أملَ انبثاق طرف حلّ للمشكلة، وبعد لأي، يستندون إلى وسادة الوساطة بين الحلول الغير موثوقة، ليستأنف عقل المرء توازن الحلول للمشكلة، لكنه ينبري برأي مخالف للحلّين السابقين، فيستقرّ المنطق إلى ثالث الحلول، ويحتدم الصراح بين الحجج والمنطق، ليعتلي الحل الثالث مطردا عن عقل المرء الخارق، ويقبل الجميع به ويقرّوه، وهذا ما عنته الأثافي الثلاث في ارتكاز أي نظرية، أو ابداع قانون، أو معرفة بؤرة الظواهر.
الشاعر بشار بن برد
إن المقدمة الطللية كانت حاجة ضرورية، وتمهيداً ماساً لدى جمهرة الشعراء في العصر الجاهلي، ولما عقبه من العصور الأخرى، حتى الربع الأول من العصر العباسي، حتى تخلّى عنها كثير من الشعراء، ليبدأ عصر التجديد في المنهج التقليدي للقصيدة العربية، والشعر برمته، وقد برع في هذا التغيير في المنهج عدد كبير من شعراء العصر العباسي، وما تلاهم في العصر الأموي، مثل الشاعر بشار بن برد، وأبي نواس، والمتنبي، وأبي تمام، والفرزدق، والأخطل وجرير، وغيرهم من شعراء ذاك الزمان.
أبو النواس
فقد كان الشاعر يسير على المنهج التقليدي في تلك الآونة، لما يراه من ضرورة ملحة، يلجأ إليها، في شدّ انتباه المتلقي لشعره، فيكون حاضر الذهن، مهيّأً لما يريد أن يقوله في أبياته الآتية، فهو لا يبدع في الإلقاء إلا بمقدمة رائعة، تطرب لها الآذان، وتستمتع بذكرها النفوس، فيذكر في أبيات معدودة آثار القوم المُعَفَّاةَ، وبقايا الديار الدارسة، التي نسفتها صروف الدهر، وقد تكون تلك المقدمة قصة من خيال الشاعر، أو حقيقة قابعة في خياله، فيعيد تصويرها بخيالات منمّقة جميلة، يأخذ الطابع الحزين محورها، فتبدو لنا آثاراً متحركة في منظر الراحلة، وأعمال المحبوبة، التي هجرت المكان منذ زمن، فيورد الصور، والتراكيب، والأخيلة، بمعان، وبصور موغلة في الحزن، والفراق،
الشاعر المتنبي
ومفعمة بالآلام، وبالأحزان، ما يثير في النفس والعين العطف، والشفقة للشاعر الوَلِهِ، والميل للاستماع، وللامتزاج لما يورده من فكر بعد ذلك، في عصف ذهني مرتبط بشعور المرء لجمال الكلمات، ودقة الوصف، وامتثال لطلب من ممدوح، ملك، أو أمير، أو من رجل موفور المال، إن كان الشاعر هدفه المدح، والتكسب في شعره.
الشاعر العربي الفرزدق
ولما للمكان من أهمية في نفس الإنسان المحبّ العاشق، وقد خلت الديار من هذا المحبّ، وهذا العشق في المكان والزمان، يقف الشاعر الحزين الوَجِد، واصفاً، ومحدّثاً تلك الآثار الصامتة، ليولّد فيها شعورا بالحياة، يعادل موضوعياً نفسه الحزنى لفراق أحبته، فتختلط نفسه الثكلى المكلوءة بوحدة الأثافي الثلاث في ليلها السرمدي الطويل المنهك، وبصفير الرمال الصفراء ذي اللحن الشجيّ، والمدوي في عمق الصحراء، وقد اسودّت هذه الأثافي من آثار نار الأحبة، وكأنها اتّشحت بلون نفسه الحزينة الثكلى، فراقا لأهل الديار.
الشاعر العربي جرير
والأثافي هي ثلاثة أحجار، توضع تحت القدر لطهو الطعام، وإيقاد النار تحته، لينضج الطعام، فكانت العمل الأول من الأعمال، التي يقوم بها القوم حينما ينزلون في مكان، بمقربة من جبل، أو هضبة، أو تل مرتفع، إذ هي وسيلتهم الوحيدة لإشعال النار وللطهو، فتبحث المرأة عن حجرين متوسطي الحجم، فتجعلهما مقابل بعض، وإذا لم تجد الحجر الثالث، فتصنع من حافة الجبل، أو التل منصبة ثالثة، ليستقر عليها القدر، فلا يميل، ولا يسقط في شكل مثلث هندسي متساوي الأضلاع، في عمل بديهي من أشكال الهندسة الشكلية، وحينما يغادر القوم المكان، تبقى تلك الحجارة على حالها مسودّة، ومُعَفَّاة بغبار الأيام، وربما السنين، فكأنها تذكر الرائي لها قصص الأحزان، والأيام الخوالي، فيهيم وجدًا وشوقًا لمرآها.
فأصبحت العرب ذاكرة تلك الأثافي الثلاث، لما تَكِنُّ من أحزان، ومن مصائب حدثت، في أشعارها، وفي مستودع ذكراها، وفي أمثالها، فقد سمع عن الناس هذا المثل القائل:” رماه الله بثالثة الأثافي” ويقال هذا المثل في تعرض الإنسان للمصيبة الجلل، وللداهية العظيمة، والخطرة، لأن ثالثة الأثافي هي ركن الجبل، فكما ركن الجبل القاسي العظيم، والثقيل، كذلك الأمر الجلل والمصيبة العظيمة، يصيبان المرء، فإما تميته، أو تبقيه طوال حياته متأثرا بتلك الداهية، وكذلك حين يُرمى بقسم من حجارة الجبل فإنها تهلكه، وفي أمثلة أخرى” هُوَ أصْبَرُ عَلَى السَّوَافي مِنْ ثَالِثَةِ الأثَافِي، ومثل آخر، أنْتَ أنْزَلْتَ القِدْرَ بأَثَافِيِّهَا، يُقال هذا المثل حينما يقدّم رجل حكيم حلاً لمشكلة كبيرة يصعب حلها.
وهنا وفي معرض حديثنا عن الأثافي الثلاث، ولما لها من أهمية في نفس الشاعر الغريب في دياره، بعد هجر القوم لها، يقف عند هذه الأثافي، يحدثها مستذكرا أياما جميلة قد ولت، فيورد وصفها في أشعاره، كما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى، وهو شاعر جاهلي عاش في الزمن، الذي سبق الإسلام بقرون طويلة:
أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ
الأثافي هي الحجارة الثلاث، والسفع، المُسودّة، والمُعَرَّس هو مكان القدر، والمِرجَل هو قدر الطهي، والنؤي هو حفرة بعمق خمسة عشر سنتمترا، يحفرها الناس حول الخيام، حتى لا تدخل مياه المطر إلى الداخل فيغرقون، ولم يتثلم، أي لم تنكسر أطراف الحفرة، فهي كالحوض السليم، ومن هنا جيء بالمثل العامي (الماينوي يغرق) تمثلا لهذا البيت الشعري.
وذكر الأثافي الثلاث أيضا الشاعر الجاهلي المرقش الأكبر، حين قال: