بعثيّة، بعثيّة.. بعثية …

 

 

أذكر في مرحلة السبعينات عندما كنّا طلاب مدارس نشارك في المسيرات “الشعبية” مكرهين مقهورين، نردّد كالببّغاوات ما يُطلب منّا من شعارات وهتافات دون قناعتنا، وإنما بدافع من خوفنا بسبب البطش والتنكيل الذي كان من نصيب أيّ شخص تفوح منه رائحة عدم الولاء لحاكم البلاد.. أذكر أن أحد الزملاء الذي كان “بطل” المسيرات في تلك المرحلة – وهو بعثيّ معروف بنفاقه وتزلّفه – وأنا شخصياً أعتبره أحد ضحايا الاستبداد وسياسة الإقصاء والتهميش وعبادة الفرد التي تربّى عليها وعانى منها جيل كامل من رعايا سورية – فقد كان هذا الزميل غالباً ما يتصدّر تلك المسيرات، فيمتطي ظهرَ زميلٍ له ويبدأ بصوته الصدّاح يردّد ما حفظه قبل بدء المسيرة من مقاطع وعبارات، يعتمد فيها على السجع بألحانٍ ونغماتٍ باتت ممجوجة ومنفّرة ربما حتى لأصحاب الشأن.

ومن الوقائع التي لا أنساها ما حيّيت، أنه في إحدى المسيرات وكان الجوّ ماطراً، بدأ يهتف ذلك الزميل بصوته القويّ مبتدئاً بالأرقام التي تذكّرنا بالمناسبات الوطنية حسب رؤيتهم لها كقوله:

6  تشرين، فيردّ المحيطون به بصوتٍ واحد كالكورس: بعثيّة.

7 نيسان، يردّون: بعثيّة..

8  آذار: بعثيّة..

ولمّا لم تسعفه ذاكرته على تذكّر بقية التواريخ ذات الإيقاع الموسيقي المناسب للرتم الذي بدأ به. فقد أخذ يحرّك يده في الهواء كالمايسترو دونما صوت، قادحاً في الوقت ذاته مخيّلته للتذكّر، فردّدت جوقته بعد أن أسبل يده: بعثيّة!

وسرعان ما قفز إلى سطح أفكاره أحد الأرقام التاريخية فهتف:

5   حزيران، فردّ من حوله بعقلية غريزة القطيع دون تفكير، اللازمة المعهودة: بعثيّة!

وكان أحد زملائه في تلك اللحظة يحميه من المطر بواسطة مظلّة، ويبدو أنه انتبه إلى الخطأ الفادح الذي ارتكبه صاحبه بذكر تاريخ هزيمة حرب الـ 67 وتحميل وزْرها للبعثيين، فأزاح عنه المظلة بغضب كنوع من الاحتجاج، وبدأ المطر ينسكب بغزارة على الهتّاف الذي صاح محتدّاً باستنكار:

ولك هات الشمسية. فردَّ المحيطون به: بعثيّة!

 

ضياء اسكندر