إن في نوروز لآيات … أفلا يسمعون

 

ملايين من شعوب المنطقة توحدت نداءاتهم وصرخاتهم التي دوت في ساحات الاحتفال بهذا اليوم الذي لا يعتبر إلا عن الحقيقة المجتمعية والتاريخية لمجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشعوبها المختلفة. تحول هذا اليوم الذي كان حبيس صرخات الكرد فقط، إلى حماس دبّ في قلوب الكرد والعرب والسريان–الآشور والتركمان والفرس والترك لتتوحد شعاراتهم في الحرية والكرامة التي لطالما كانوا يتمنونها أن تخرج من قلوبهم لتكون صدىً يتردد على مسامع كل من كان يتمنى أن يقضي على نوروز بكل ما أوتي من إمكانيات وأدوات. رسائل أوصلتها شعوب المنطقة باختلاف مكوناتها القومية والمذهبية والطائفية والدينية، بأن الشعوب إذا أرادت صنع حياتها وكتابة تاريخها بيدها فلا مستحيل يقف أمامها.

يوم جديد، بهذا المعنى أحيا الكرد والعرب والآشور-السريان وشعوب المنطقة احتفالهم بهذا اليوم ليأكدوا أن معنى الحياة فقط يمكن أن يكون في وحدة الشعوب مع بعضها البعض، لأنه من خلال هذه الوحدة تكمن القوة التي يمكن عبرها تحطيم كافة الأغلال والقوانين والممنوعات التي فرضتها الأنظمة المغتصبة لكرامة الانسان، وبنفس الوقت لتعلن عن ميلاد نوروز الشعوب وحريتها وعودتها إلى ذاتها التي اغتربت عنها بفعل سياسات الحكام المستبدين. من آمد ونصيبين ووان وشرناخ وقامشلو ومهاباد وهولير وقنديل وكل مدن ميزبوتاميا ولتمتد إلى الأطراف في دمشق والقاهرة وبغداد وانقرة وإسطنبول وأوروبا. تحول نوروز لمهرجان الشعوب التي تناضل من أجل القضاء على العقلية الاقصائية والأحادية التي لا تؤمن بوحدة الشعوب وتكاتفها مع بعضها البعض.

كان ولا زال نوروز يمثل ارتباط الانسان مع الطبيعة الأم التي كانت دائما الحضن الذي لم يتخلَ عن أبنائه وأحفاده. إنه يوم جديد يبدأه الانسان ليترك وراءه كل حقد وضغينة وكراهية، ليجدد معاني الحياة التي لا تسمو إلا بالمحبة والتضحية والاحترام والابتسامة التي تمنح البهجة في القلوب. يوم جديد يتساوى فيه النهار مع الليل ليعطي لوحة جميلة بأن الحياة ستبقى لها معنى حينما يتساوى الجميع فيها من دون طغيان طرف على آخر.
يوم كل لحظة فيها جديدة تمنح إرادة الانبعاث من تحت الرماد لطير الققنوس الآري والعنقاء السامي كي تحلق في سماء الحرية وتبعث الحياة من جديد. ملاحم تلاحق هذه الطيور من قبل شعوب المنطقة لترفعه عالياً ليكون رمزاً لإله الشمس الزرادشتي، الذي يشرق كل يوم ليمنح الحياة للطبيعة وكل من يدب فيها. ملاحم وأساطير لليوم الجديد الذي كان رمزاً لليوم الذي تخلصت منه الشعوب من الملوك الطغاة والعراة الذين استكبروا على شعوبهم وألهوا أنفسهم وتحولوا لمستبدين وأن الخلود بات من نصيبهم، إلى أن جاء كاوا الحداد (استياغ)، وحطم الصنم الذي جعل نفسه من الخالدين. وكانت النار هي إشارة النصر في القضاء على المتكبرين والظالمين الذين يعتاشون من كدّ وعرق شعوبهم، ومذ ذاك اليوم وباتت النار رمزاً للحرية والحياة الجديدة و (نوروز)، والتي تتقاطع ومسيرة سيدنا إبراهيم في تحطيم الأصنام ليعلن عن انتهاء عصر عبودية الانسان لأصنام لا حول لها ولا قوة.
نوروز هو رسالة البدايات الجديدة التي تبدأ مع محبة الطبيعة الأم المانحة لمعاني الحياة والمرتبطة بشكل وثيق بإرادة وإصرار الانسان، ونوروز هو الأمل الذي يمد الانسان بالعزيمة على مواصلة المقاومة في صعاب الحياة التي تواجهه من كل الجهات، إنه احتفال بالثقافات والصداقات النابضة بالحياة لمجتمعاتنا وشعوبنا التي كانت ولا زالت متشبثة بتراثها وتاريخها في بعث الحياة من جديد وعدم الاستكانة للخنوع والخضوع.
نوروز هو الطبيعة وهو الأم التي لا تعرف المستحيل من أجل اصباغ الحياة بلونها الجميل في التضحية والفداء والعطاء. فمنذ فترة تحطيم واستعباد المرأة التي هي الأم، كانت عجلة التاريخ تسير في الاتجاه المعاكس للحياة، وعليه توقفت المجتمعات عن العطاء والابتكار لأخلاقيات الحضارة و (ماءاتها) التي فقدتها إنانا حينما سرقها آنكي.

“المقاومة حياة” شعار اختصره مظلوم دوغان وجسدته زكية آلكان ورفاقهم ممن ساروا على دربهم. كان رداً على عنجهية الذهنية الطورانية التي أرادت أن تقضي على إرادة الكرد من خلال هؤلاء المناضلين. أشعلوا النار في أجسادهم ليتحولوا لشعلة تحرق تلك العقلية الاقصائية والالغائية الطورانية ومن بعدها البعثية على طرفي حدود دول هشّة باتت تأكل ذاتها. من سجون ديار بكر كانت الصرخة والشعلة الأولى التي أوقدها المقاومين في وجه الأنظمة المحتلة لكردستان، وبنفس الوقت صرخة في نفوس الكرد الذين قبلوا الاستسلام والخنوع والخضوع للمستبدين. كانت ولا زالت صرخة يقولها الملايين بأن المقاومة مستمرة مهما فعل الطغاة ومرتزقتهم أينا كانوا، لأن نار نوروز ستضيئ درب المقاومين وبنفس الوقت ستحرق كل من يبيع نفسه في أسواق النخاسة السياسية الارتزاقية التي امتهنها البعض.

تجمع الملايين من شعوب المنطقة من كرد وعرب وآشور-سريان وأرمن وترك وفرس، هو بحدِ ذاته معجزة لم يكن يتكهن بتها المستبدين الذين آمنوا واعتقدوا بأنهم اطفأوا حماس نوروز في قلوبهم ودفنوا آمالهم في الكهوف. إلا أن ما كان ورأيناه رغم كل ما فعلته الأنظمة المستبدة لعرقلة الاحتفال إلا أن نوروز بات معجزة وآية لمن يتفهمون ويسمعون صيحات وصرخات هذه الشعوب التواقة للحرية والكرامة، لعل هذه الأنظمة المستبدة تتعظ. لكنه أمر الله حينما قال: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) “الزخرف 78”.
نوروز هذا العام كما كل عام يعلن عن بداية جديدة من المقاومة وتحطيم الأصنام وتعرية الملوك الذين يعتبرون أنفسهم خالدين إن كانوا زعماء عشائر وقبائل وعوائل. وكل صرخة انسان في نوروز ما هي إلا قبضة تنزل مزلزلة على من يقبلون العبودية والاستسلام، المقاومون في نوروز هم من حطموا الهالة المقدسة حول الملوك الأصنام الذين أرادوا أن يجعلوا من أنفسهم مخلدين، هذ المقاومة هي التي حطمت هذه الأصنام وحولتهم لملوك عُراة مفضوحين بين مجتمعاتهم وشعوبهم.

إنها إرادة المقاومة حياة التي أرادها الكرد أن تكون ثقافة عامة لشعوب المنطقة كافة في النهوض والسير على درب بناء المجتمع والانسان الحر الواعي لذاته والآخر. إنه نوروز قرار الحرية للقائد أوجلان الذي أعطى معناً لنوروز ليكون شعلة متقدة تنير درب كل المناضلين والباحثين عن حريتهم وكرامتهم. السير على درب نوروز سيكون بمثابة العهد الذي يقطعه الانسان مع ذاته ليكون وفياً لتضحيات المقاومين وحينها فقط يمكن إدراك مع