دانتي والمشرق المتوسطي في الكوميديا الإلهية

 

 

ربما كانت المسلمات المعلومة التي تفيد بأن منطقة ميزوبوتاميا (الشرق الأوسط) وشمالي أفريقيا لعبت دوراً في تطور الفكر والوعي الإنساني والتي ابتدأت من اختراع الكتابة ببدئيتها الصورية فالرمزية ومنها إلى الحروب وتطورها إلى ما وصلت إليه الآن. حيث تم اعتبار الكتابة واللغة واللتان هما من نتاج التطور الفكري والوعي للإنسان على هذه الجغرافيا، كانت الدافع والحافز للتفكير بتطوير وسائل وأدوات الإنتاج البدائية ووصولها الآن إلى ما هي عليه مقرونة بالتطور التكنولوجي والتقني والتي بعض الأحيان لا يستوعبها عقل الانسان بحدِ ذاته. هذه المنطقة الولاّدة للفكر والتطور وأولى الجغرافيا التي نشأت عليها القرى والمدن وظهور فلسفات الحياة وأخلاقياتها وأديانها الطوطمية إلى التوحيدية، كانت مهد الحضارة البشرية ومنها انتشرت إلى الأطراف وما رافقها من عمليات تحديث عليها واستنساخها بعض الأحيان وفق ظروف وثقافات تلك المناطق.

ورغم كل هذه التراكمات المعرفية والفكرية التي لا زلنا نتغنى بها ولا ننفك متشبثين بها حتى حالة أننا بتنا أسرى لتلك المرحلة من الزمن ولا نريد التخلص منها أو تجاوزها بعد آلاف السنين من مرورها. حالة تجعلنا نعيد البحث والدراسة حول هذا الأمر في مدى ارتباطنا بالماضي من دون أن ننظر للحاضر مع غياب رؤيتنا للمستقبل بشكل عام. هل الخوف مما هو قادم هو ما يجعلنا أن نزداد ارتماءاً للماضي والتاريخ أو أننا لم نؤهل ذاتنا ونصقلها جيداً كي نكون عناصر لائقين ومنفتحين لدخول المستقبل من بوابته الفكرية. هذه البوابة التي لا تفتح مصراعيها للمتعلقين بعقلية الماضوية بقدر ما هي ترحب بالأفكار المتقدمة التي تمتلك مشاريع وخطط مستقبلية يكون بمقدورها مواكبة التطور الفكري والتقني كي يكون لها موطئ قدم في عالم المستقبل.

الارتباط بالماضوية ما هو إلا إصرارٌ على نبذ كل ما يمت بصلة عن تغيير العقلية ونقد كل ما علق فيها وعليها من أفكار عفا عنها الزمن ورحل. كمية التراث والحضارة والعلوم التي بدأت من هذه المنطقة هي قوة مادية ومعنوية لنا من أجل إعادة تدويرها لتكون متوائمة مع ما نعيشه في راهننا، لكن الإصرار على ابقائها كما هي من دون تغيير أو حتى تنظيفها من العوالق وغبار السنين، يثبت أننا لا نريد الخروج من شرنقة الجهل والتعفن الفكري والمعرفي الذي أصابنا وكأن رائحة العفن أعمت بصيرتنا وجعلتنا سكارى وما نحن بسكارى لكنه التاريخ الذي لا يرحم أحداً بتاتاً.

منذ قرون عديدة وكثير من الفلاسفة نبهونا وأنبأونا بأننا إن لم نصلح حالنا وأحوالنا فلن تقوم لنا قائمة وسيكون دائما مكاننا أمام عتبات الشعوب الأخرى، متسولين التطور منهم علَّهم يعطفون علينا بنتاجاتهم الفكرية والمعرفية وحتى الأخلاقية. نعيش في بلدان يعمّها الخوف على حساب الأمن والعدل. حيث يعتقد الحكام أنهم إذا نشروا الخوف في المجتمع تزداد السيطرة عليهم ولا يمكن أن يخرجوا عن القطيع، وعن هذا الأمر قال بن خلدون في مقدمته: “الخوف يُحي النزعات القبلية والمناطقية

والطائفية، والأمن والعدل يلغيها”. حيث في مجتمع الخوف تنمو وتزدهر النزعات العرقية الصراعات الطائفية والأثنية، لأن الشعوب تشعر أن لا مستقبل ينتظرها سوى أن تكون منقادة للسلطان والزعيم الخالد الذي هو فقط يعرف ماذا تريد المجتمعات. قررنٌ وبلداننا تعاني الخوف من كلِ شيء حتى من نفسها. خوف من الاعتقال وخوف من الجوع والفقر والتشرد والتهجير، وخوف الشعوب من بعضها البعض، وخوف ما بعد الموت. هذا ما يسيطر على المجتمعات من خول الداخل، أما خوف الخارج فحدث

ولا حرج من المؤامرات الكونية والدولية التي تحيط بنا من كل صوب وحدب. خول من الامبريالية والصهيونية والطورانية والجماعات الدينية المتطرفة وغيرها الكثير من عوامل الخوف التي تخنق المواطن وهو في سريره يحاول أن ينام ليلته من دون خوف. قرن من الخوف من الفقر على حساب ان نتسلح ونُعِدُّ العدة لإرهاب عدو الله. لكن في النهاية عرفنا أننا نحن فقط هم أدوات المؤامرة الدولية وليست الامبريالية والعقلية القيصرية ولا الصهيونية. فتم توجيه السلاح للشعوب والمجتمعات من قبل

الكل من دون استثناء لجعلنا قرابين على مذابح أجنداته وأطماعه. وبقينا وجهاً لوجه نواجه دولاً منهارة وأنظمة كرتونية ليس لها أية أرضية قوية متماسكة إلا أن تتكئ على هذا الطرف أو تلك القوة. في هذه المرحلة شهدنا الكثير ممن ادعوا الثورة على الأنظمة الاستبدادية، لكنهم تحولوا إلى مستبدين أكثر من الزعماء وهم ما زالوا في مسيرتهم الأولى. ولم يعد ما نراه له أية علاقة بالثورة وبناء الوطن الجديد. ما أروع ما وصفه بن خلدون …