القاهرة : نوس سوسيال الدولية
عبّر كثير من المصريين عن سعادتهم بالخطوة التي اتخذها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بتنصيب المستشار بولس فهمي رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، ووصفوها بأنها “خطوة تاريخية” في طريق بناء “الجمهورية الجديدة” التي وعد بها السيسي مواطنيه العام الماضي، وتعتبر تجسيداً لوعده بترسيخ مفهوم “المواطنة” وأن “مصر لكل المصريين”.
ويعد فهمي هو أول مسيحي يشغل هذا المنصب الذي يحظى بأهمية قضائية وسياسية كبيرة. وتختص المحكمة الدستورية العليا من دون غيرها، بالفصل في مدى دستورية القوانين، وذلك منذ صدور دستور عام 1971، وهو ما تم تأكيده في دستور عام 2014 الذي يسري العمل به حالياً في مصر.
وأدى رئيس المحكمة الدستورية العليا الجديد اليمين الدستورية أمام الرئيس المصري، أمس الأربعاء، ليبدأ مهام منصبه الجديد، ويترأس أولى جلسات المحكمة في 5 آذار (مارس) المقبل.
ويرى كتّاب ومحللون أن تعيين مسيحي في هذا المنصب المهم، يأتي ضمن سياسة الدولة لتصحيح أوضاع المصريين المسيحيين في وطنهم. ويأتي هذا بعد عقود من الفتن التي بثتها تيارات الإسلام السياسي في المجتمع، والتي سعت إلى تصنيف المواطنين على أساس معتقداتهم الدينية، محاولة الاستئثار بالمناصب العليا، ومتسترة بفتاوى وآراء “فاسدة” حسبما يصفها بعض المتخصصين في تيارات الإسلام السياسي.
وتقول الكاتبة الصحافية المتخصصة في الشأن المسيحي وفاء وصفي لـ”النهار العربي”: “إن هذا القرار يأتي متسقاً تماماً مع تصريحات الرئيس السيسي في قداس عيد الميلاد المجيد، في الكاتدرائية، عندما أكد أننا اخترنا طريقاً وسنسير فيه جميعاً معاً. فمرحباً بنا جميعاً في الجمهورية الجديدة المختلفة المضيئة بإذن الله”.
الأزهر يهنئ
وتفاعل الآلاف من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي مع تهنئة شيخ الأزهر، والتي نشرتها الصفحة الرسيمة لـ”الأزهر”، كما شاركها المئات، معبرين عن سعادتهم بهذه التهنئة.
ومن بين من شاركوا التهنئة الدكتور عاصم حفني، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ماربورغ الألمانية، والذي وصفها بأنها “لفتة طيبة من فضيلة الإمام الأكبر تستحق التحية والتقدير”. وحفني هو أحد مؤسسي مبادرة “أزاهرة يستنيرون” التي تسعى إلى تجديد الخطاب الديني، وترسيخ حق المواطنة في المجتمع، وهو أيضاً أحد خريجي جامعة الأزهر.
وأرسلت جهات رسمية عديدة التهنئة لرئيس المحكمة الدستورية الجديدة، ومنها هيئة قضايا الدولة، والنيابة الإدارية، وكذلك شخصيات عامة عديدة أثنت على قرار الرئيس المصري باعتباره خطوة “مهمة” في ترسيخ مبدأ المواطنة.
قرار تاريخي
ويقول حفني لـ”النهار العربي”: “أعتقد أن قرار رئيس الجمهورية بتعيينه مستشاراً مسيحياً رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، هو قرار يعكس تطوراً هائلاً وكبيراً للغاية في مفهوم الدولة المدنية في مصر، وهو خطوة كبيرة تجاه تأسيس هذه الدولة”.
ويشير أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ماربورغ الألمانية، إلى أن “هناك أسساً عدة للدولة المدنية، أهمها هو المساواة بين المواطنين، وبقية القواعد سوف تأتي بالتدريج. إن مفهوم المواطنة يعني أن كل مواطني الدولة متساوون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن دينهم، أو لونهم أو عرقهم”.
ويؤكد أن “هذا القرار غير مسبوق في تاريخ الإسلام، حتى في فترات التسامح بين الحكام المسلمين ومواطنيهم غير المسلمين، بخاصة اليهود والمسيحيين، لم يصل مسيحي أو يهودي إلى هذه الدرجة من قبل، لكن كان يستعان بهم في الترجمات والطب وما إلى ذلك. لقد كانت كلها وظائف تنحسر في الجانب الإداري أو الجانب العلمي، لكن لم تصل أبداً إلى مستوى قضائي أو منصب مؤثر في شكل الدولة”.
ويشير حفني إلى أن “الفقه والفتاوى كانت تتعاطى مع واقع المسيحيين واليهود على أنهم “أهل ذمة”، لذا لم تكن تلك الفتاوى تسمح بأن يتولى “أهل الذمة” منصباً قضائياً أو قيادياً بالدولة الإسلامية، أو بكلمات أخرى لا يسمح بأن تكون لهم ولاية على المسلمين”.
ويوضح أستاذ الدراسات أن “المناصب القيادية ارتبطت في الذهنية العامة المسلمة، بالإسلام، حتى أن الأزهر نفسه حين وضع دستوراً تهتدي به الدول ذات الأغلبية المسلمة في العالم ككل، في نهايات القرن العشرين، اشترط أن يكون الرئيس مسلماً وكذلك أن يكون ذكراً”.
ويضيف: “لكننا نجد تطوراً واضحاً في موقف الأزهر، ومن ثم في موقف المسلمين من الإسلام، ورؤيتهم لغير المسلمين، وتجلى هذا في وثيقة الأزهر بشأن مستقبل مصر التي صدرت عام 2011، إذ لم تشترط تلك الوثيقة الصادرة باسم الأزهر والتي وقعها الشيخ أحمد الطيب، ديناً للرئيس، ولم تشر إلى ديانته من الأساس، وهذا يعني أشارة ضمنية أنه لا اعتراض على أن يتولى مواطن غير مسلم رئاسة وطنه. هذا تطور كبير للغاية”.
خريطة طريق
وتؤكد وصفي التي تغطي ملف المسيحيين في مصر منذ سنوات عدة، أن “الرئيس السيسي يتخذ خطوات يؤمن بها فعلاً، وليس فقط عبارة عن رسائل موجهة للغرب كيفما كان يحدث في العهود السابقة. إذ كان يصدُر قرار ما لتهدئة أوضاع ما، أو قرار ما بعدما تحدث مناوشات غربية في ما يخص حقوق الأقباط مثلاً، ولكن الآن الأمر مختلف تمام، فقد أصبح لدينا رئيس يؤمن بأن مصر حق لكل المصريين، وأنه رئيس حقيقي لكل المصريين”.
“غزوة الصناديق”
وكانت تلك التعديلات أقرت بعد استفتاء شعبي، وصفه أحد أبرز دعاة التيار السلفي في مصر وهو الشيخ محمد حسين يعقوب بـ”غزوة الصناديق”، والتي اعتبرها أنها دليل على أن صناديق الاقتراع “قالت للدين نعم”.
وبناء على تلك التعديلات تم نقل القضاة السبعة إلى جهات قضائية أخرى، وعاد فهمي إلى المحكمة الدستورية في العام 2014 بعد إطاحة “الإخوان” إثر تظاهرات شعبية جارفة في 30 حزيران (يونيو) 2013، وتولى أمانتها، وعيّنه الرئيس السيسي رئيساً للمحكمة في 9 شباط (فبراير) من عام 2022، ومن المتوقع أن يستمر المستشار فهمي البالغ من العمر 65 عاماً في منصبه الجديد لمدة 5 سنوات حتى يبلغ سن التقاعد الرسمي للقضاة وهو 70 عاماً.