حين عبر مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديموقراطي الكردستناني، عن رغبته في أن يستند إلى قاعدة شيعية قوية في تحالفه مع مقتدى الصدر، فإنه لم يكن يفكر في مرشحه لرئاسة الدولة العراقية هوشيار زيباري وهو خاله فقط، بل كان ولا يزال يسعى إلى أن يؤسس لعلاقة جديدة بينه وبين إيران التي كانت دائماً تدعم منافسه في الزعامة جلال الطالباني، الرئيس السابق لحزب الاتحاد الوطني الذي نجح في أن يضع مرشحه على رأس الدولة العراقية خلال السنوات الماضية.
بارزاني له حساباته التي تختلف كلياً عن حسابات مقتدى الصدر الذي تحالف معه من أجل تشكيل الكتلة الأكبر في مجلس النواب، والتي سيحق لها ترشيح رئيس الوزراء في المرحلة المقبلة، إضافة إلى الموافقة على شخص رئيس الدولة وهو منصب أظهر برهم صالح، الرئيس الحالي، رغبته في الحفاظ عليه لأربع سنوات مقبلة.
يسعى بارزاني إلى إحداث خرق في المعادلة السياسية القائمة على تفكك البيت الشيعي. لا حباً في تماسك ذلك البيت بل رغبة منه في أن يستقوي على حزب الاتحاد الوطني الذي تخلى عن زعامة إقليم كردستان، ليحظى بمنصب شرفي ينطوي على رمزية عالية أمام العالم، وخاصة في القمم العربية التي ستكون مجبرة على القبول بممثل كردي للعراق. وإذا ما كان بارزاني قد هُزم عام 2017 بعدما أجرى استفتاء الانفصال الذي قوبل بتجهم أميركي شجع بغداد على فرض عقوبات على الإقليم الكردي، فإنه اليوم يسعى إلى أن يطوي الرئاستين تحت جناحيه، رئاسة العراق ورئاسة الإقليم.
وهو هدف يعرف أنه لن يصل إليه إلا عن طريق إغراء الجبهة الشيعية التي زادتها نتائج الانتخابات الأخيرة تفككاً، باستعادة تماسكها الذي كان بالرغم من صوريته قد شكل ضمانة لصمود نظام المحاصصة والإبقاء على حصة الإقليم السنوية من موازنة الدولة العراقية.
وبعيداً من موقف بارزاني النفعي من مسألة تشرذم البيت الشيعي، فإن مجموعة الأحزاب الشيعية المهزومة التي انضوت في ما سُمي بـ”الإطار التنسيقي” لا تخفي مخاوفها الحقيقة من إمكان أن يمضي مقتدى الصدر في قرار نبذها إلى المعارضة واستبعادها من الدولة، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى ضعف نفوذها، ومن ثم فقدانها امتيازاتها التي كانت إلى وقت قريب تعتبرها جزءاً من الحق الذي يجب أن تحصل عليه لقاء سنوات نضالها السري في دول اللجوء. ذلك هو الوتر الحساس الذي حاول مقتدى الصدر أن يلعب عليه حين عرض على عدد من زعماء تلك الأحزاب مسألة التخلي عن نوري المالكي، ومن خلاله عن حزب الدعوة الذي كانت له الحصة الأكبر في حكم عراق ما بعد الاحتلال، لقاء أن يكونوا جزءاً من التركيبة الحاكمة التي سيتزعمها. حيلة للتخلص من المالكي وحزبه لن تضمن للأحزاب الشيعية الأخرى سوى الحصول على الفتات، في ظل تخليها عن استقلالها، واعترافها بالصدر زعيماً للبيت الشيعي الذي ستتهشم معظم أعمدته حين تتم ملاحقة أتباع حزب الدعوة بعد أن تُفتح ملفات فسادهم.
حاولت إيران من خلال الاتصال المباشر ببارزاني، وهو مؤشر الى ضعف سيطرتها في بغداد، أن تضفي على مسألة إعادة الجبهة الشيعية إلى تماسكها الصوري طابعاً وطنياً. لم يكن من عادة زعيم فيلق القدس أن يذهب إلى كردستان من أجل شأن يتعلق بالأحزاب الشيعية. ولكن قاآني فعلها. ذلك دليل على أن ما كان ممكناً بالنسبة الى إيران في مرحلة ما قبل احتجاجات عام 2019 لم يعد ممكناً في مرحلة ما بعد انتخابات 2021. ربما صدق بارزاني أن رغبة إيران في أن تشركه في ترميم البيت الشيعي ستكون فرصته للحصول على امتيازات أكثر والتهام ما يمكن التهامه من الدولة العراقية.
غير أن ذلك لا يكشف عن ذكاء سياسي. فالبيت الشيعي لا يمكن ترميمه في ظل انهيار الثقة بين أطرافه. يوماً ما كانت العلاقات بين أطرافه قائمة على توازن قلق، وكان قاسم سليماني زعيم فيلق القدس السابق يملك نفوذاً على الجميع باسم الدفاع عن المذهب. مضى ذلك الزمن، ولم يعد هناك شيء من التوازن القلق بعدما فاز الصدر وهُزمت الأحزاب الشيعية المناوئة له.
ليس مطلوباً اليوم من الصدر أن يذهب بحشود فقرائه إلى المنطقة الخضراء، وهي منطقة الحكم، ليزعج سكانها، فهو يستعد لطردهم منها. ويمكن توقع أن يغادر الكثيرون منهم العراق إلى دولهم الثانية متمتعين بما حصلوا عليه من أموال، إلا إذا قررت الدولة العراقية اللجوء إلى الأنتربول لاستعادة أموالها، وهو أمر ليس مستبعداً في ظل إفلاسها المتجدد.
في حقيقة ما يجري التحضير له، فإن الصدر يستعد لإقامة بيت شيعي على أسس جديدة، يكمن أهمها في فك الارتباط نسبياً بإيران، من غير أن ينطوي ذلك على أي نوع من أنواع العداء لها. وهو ما يمكن أن يعيد إلى الشيعية السياسية طابعها الوطني المتوازن، ويغري أطرافاً سنية لا تزال غير مقتنعة بالعملية السياسية في الانضمام إليها تحت زعامة الصدر الذي سيكون يومها الزعيم المطلق للبيت الشيعي من غير منافس.