مقال تحليلي : آفاق الصراع وضرورات الحل في سوريا

لم يعد خافيا على احد تطور القضية السورية من كونها تكثيف اجتماعي سياسي تجسد عبر خروج مطالب شعبية غاضبة الى العلن بخصوص احترام حق السوريين بالحياة و الكرامة و الحرية تطوره إلى حرب قاتلة قادها النظام ضد شعبه ودمار عام ألحقه بسورية الأرض والأنسان، و السؤال المشروع آنذاك هل يمكن التعويل بعد كل ما صدر عن النظام الأسدي من جرائم وحشية ومن حرق للبلد ، على حوار معه ، يقود الى

حل سلمي في سوريا ، وهل من التوازن القول بأن على السوريين من جميع الأطراف ان يتحاوروا فيما بينهم كي يتجاوزا عتبة الأزمة الحاصلة في بلادنا منذ ما يقرب من احد عشر عاما ، وان الحل ممكن دون ذلك ، في اشارة ضمنية ربما الى ان من يعطل الحل المنشود هي محض اطراف غير سورية فقط !، لا يبرئ النظام ويضعه في موقع موازٍ مع اطراف و جهات سورية لم تكن احدى فواعل التأزيم بالقدر الذي

كانت فيه احد فواعل الحل ،كالإدارة الذاتية الديمقراطية على سبيل المثال ؟ ثم ما هي العوامل المساعدة او تلك التي تتسبب في المزيد من التعويق في عملية ايجاد ذلك الحل السياسي والوصول بالبلاد الى المستقبل الديمقراطي المتجاوز لمسارات الاستبداد و القمع والطغيان التي افرزتها النظام الأسدي في سوريا و مجتمعها طوال نصف قرن ؟ ولكن السؤال الأهم الذي تطرحه هذه السطور لماذا

كانت الساحة السورية محال جيوسياسية جاذبا للصراعات الاقليمية و الدولية على ارضها ؟وهل كان ذلك قدرا محتوما ام افرازا عضويا لمعطيات تقاطع المحلي السوري بالإقليمي و الدولي في السياسة الدولية ؟ لم يسمع السوريون قبل ثورة اذار من عام ٢٠١١ بمفهوم الصراع على سوريا الا كعنوان لكتاب شهير اصدره الصحفي البريطاني باتريك سيل يغطي و يؤرخ فيه لمرحلة تاريخية حديثة مرت بها سوريا منذ تأسيسها حتى مرحلة ما قبل الانقلاب العسكري للضباط البعثيين في الثامن اذار من عام ١٩٦٣ ، ولم يكن

يخطر ببال أي سياسي او باحث متخصص بشأن السوري ان يعود هذا العنوان ليلخص المشهد الذي يخص سوريا بدءا من عام ٢٠١١ حتى اللحظة الراهنة ، فالنظام الأسدي البعثي الذي اختصر الوجود السوري به واحتكر مقدرات البلاد وفعالياتها السياسية كلها في شخص الأسد الأب، خاضت حرب الصراع على الشرق الأوسط كطرف فاعل و لعقود طويلة لكن ما لبثت ان تحولت الى مادة للصراع بعد عقد و نيف من وصول الأسد الابن الى السلطة كوريث العائلة الأسدية و مكرس لها في سوريا، مادة لصراع يتوزع على مسارات متداخلة تظهر الأهم بينها في ثلاثة محاور ، الأول تحركه طائفياً ايديولوجياً ثيوقراطية توسعية

تتمثل بإيران ووكلائها في لبنان و العراق وسوريا ،حزب الله و الفصائل الشيعية العراقية، و الثاني تركي يكرسه و يجسده في المنطقة تحالف هجين بين طورانية متجذرة و عنصرية ممتزجة باسم الإسلام السياسي التركي ذو طموح توسعي مشدود متأثر بإمبراطورية عثمانية واسلام سياسي متباين اخواني من جهة و جهادي تكفيري ارهابي من جهة ثانية اما الثالث فهو محور دولي تقف فيه الولايات المتحدة

و روسيا الاتحادية كطرفين متناقضين يصدران استقطابان و ارادات تصيب الوضع السوري وتنتظم وفقه معطيات و اجندات اقليمية و محلية عديدة، ان ايران التي اعلنت مبدأ تصدير الثورة الإسلامية وفقا للنمط الشيعي والولي الفقيه عام ١٩٧٩ ومنذ ذلك الوقت لم تتوانى عن نسج خيوط سياسية ذات مأرب توسعية في انحاء الشرق الأوسط الإسلامي، فبادرت الى تأسيس حزب الله اللبناني كذراع توسع و ضغط ليكون

بمثابة وكيل سياسي ينفذ سياسات ايران واجندتها على نحو علني دون مواربة، وبنت عالقات وتحالفات متينة بينها و بين انظمة تنتمي الى المذهب السني، على راسها نظام الأسدي في سوريا ،الذي رحب بإيران الإسلامية ووقف الى صفها حتى النهاية في حربها مع العراق ، هذا التحالف الذي تطور فاصبح استراتيجيا لدى ايران ونظام الأسد هو بالضبط ما افادت منه الأخيرة منذ عام ٢٠١١ ، حيث انخرطت ايران ووكلائها من الأحزاب و الفصائل الشيعية في الأزمة السورية بكل ثقلها ، سياسيا و عسكريا و اقتصاديا

وبكل ما اوتوا من قوة الى جانب النظام معتبرين الدفاع عنه قضية وجود بالنسبة لهم من الدخول فيها بأعظم ما لديهم من اوزان و مقدرات، وهو ما سمح للنظام الأسدي بالبقاء على سدة السلطة وترك سوريا في اتون ازمة تزداد صعوبة وتعقيدا في كل يوم . أما المحور الثاني المتمثل بالاحتلال التركي لكردستان الشمالية التي يسكنها شعب كردي أصيل في وطنه الأم “كردستان” ولكن الاحتلال التركي جاء

مغتصباً بلاد الكرد كردستان، بينما الأتراك العثمانيين جاءوا من أواسط آسيا الصغرى غازين الوطن الكردي، فأصبحت  القضية الكردية (فوبيا) لتركيا القلقة من نضال كردي فاعل في مستقبل المنطقة بشرق الأوسط وتفاعلاتها السياسية التي جعلت من محاصرة رغبة الشعب الكردي في العيش المشترك بكرامة الى جانب الشعب العربي، الآشوري والسرياني في سوريا والحضور بفعالية و نيله ما تقره له

ثقافة حقوق الإنسان، عنواناً رئيسياً لسياستها في الوضع السوري إضافة الى دعمها للإسلام السني الإخواني واعتباره هو طرف الثورة الرسمي الذي تراه وتتبناه ، الأمر الذي وضع تركيا الى جانب ايران في خانتين وان كانتا متعارضتين في حالة معينة الا انها متفقة جوهريا على عداء ارادة السوريين وبشكل خاص الكرد في كل من سوريا وتركيا وإيران وعداء كافة المكونات التي تعيش في كردستان وشرق

الأوسط، والهدف توسع نفوذ ايراني في سوريا تحت عباءة الإسلام السياسي الشيعي مع ابقاء نظام الاسد في سوريا كما كان قبل عام ٢٠١١وبين توسع تركي يهدف الى القضاء على الشعب الكردي وتوسيع الحدود التركية في ذات الوقت لتضم ما يسمى (بميثاق مللي)، حيث تحتل الأراضي السورية من شمال خط 36 أي من محافظة حلب والرقة و دير الزور إلى الأراضي التركية الحالية بعد انتهاء معاهدة لوزان عام 2023 ليترافق هذا التوسع من الجهة التركية مع أيصال حركة الإخوان المسلمين والجماعات

الجهادية إلى سدة الحكم على الجهة السورية لتضم سوريا أرضا وشعباً إلى منظومة العثمانية الجديدة و بالتالي الوصول من خلالها الى العالم العربي و التوغل فيه، وهو ما يعني ان المحورين التركي و الإيراني يتعارضان بنيويا و جوهريا مع حركة السوريين نحو الحرية و الكرامة و اقامة وطن تعددي يتشارك فيه الكردي مع العربي و الآشوري والسرياني وكل الأطياف السورية، المسلم مع المسيحي، السني مع

العلوي، الدرزي مع الاسماعيلي والإيزيدي أيضاً في وطن واحد وعيش مشترك، ومن المفيد الإشارة قياسا لما سبق بما يخص الدور والتدخل التركي في الثورة السورية الى ما يمكن ان يفسر للمراقب المعني بالشأن السوري ما حصل في اروقة الحال السوري من ألغاز، من قبيل منع الضباط المنشقين من قيادة الوضع العسكري الثوري، وظهور المقاتلين الإسلاميين والجهاديين التكفيريين ودفعهم إلى

الاحتلال المدن والقرى الشمالية السورية ونهبها وقتل الأبرياء من أبناء الشعب السوري، والسيطرة على الثورة السياسية و التحكم بها والحاقها بالإسلام السياسي التركي والاطماع الاردوغانية العثمانية، اما بخصوص المحور الدولي المتمثل بالولايات المتحدة و روسيا الاتحادية فلكل منهما اهدافه و أطماعه ذات الصلة بمصالحه ذات الشأن الدولي ، فمصلحة روسيا في سوريا كبيرة وتاريخية تعود الى حقبة الاتحاد

السوفيتي وحتى وضع موطئ قدم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والوقوف في وجه ما تعتبره نفوذا امريكيا متزايدا في منطقة الشرق الأوسط ، انما ايضا هناك ابعاد اقتصادية و استثمارات روسية متزايدة في سوريا لا بد من التعويل عليها من وجهة نظر السياسة الروسية، ورغم ان الولايات المتحدة التي تحتفظ بمساحات نفوذ هائلة في الشرق الأوسط كانت و لا تزال معنية بوضعها كقوة عظمى

وقطب دولي يكاد يكون وحده المتحكم في النظام الدولي، وما يترتب على ذلك من ضرورة الحفاظ على اشكال حضور مستمر وفعال لها في المنطقة ، الا انها لم تحضر عسكريا الى سوريا ولم تبدأ التحرك لبناء وجود وتمتين خطوط ومصالح سياسية في سوريا الا في مرحلة متأخرة من الأزمة السورية، ولم تبدأ إلا بعد اجتياح داعش الإرهابية لمساحات واسعة من سوريا والعراق، يهدد الوجود الامريكي في المنطقة، مع ذلك كرست الولايات المتحدة ذاتها قوة رئيسية تتحكم في سوريا ولا تسمح على المدى الاستراتيجي

ان تتجاوز مصالحها في سوريا، في ظل هذه الظروف الصعبة والمصالح المتضاربة هل بقي بصيص أمل من الحوارات الجارية في جنيف؟ وهل يمكن أن يعيد النظام سيطرته على الجغرافية السورية بأكملها كما كان الوضع قبل الثورة؟… وهل من شروط سياسية مناسبة تتوفر على أرض الواقع وبيئة اجتماعية جديدة تراعي لعودة الشعب المهجّر من سوريا بسبب قمع النظام الظالم ؟ .. بالطبع كل ذلك متعذر

للغاية كما تزعم هذه السطور ، فلا يمكن التعويل على نجاح الحوارات الجارية في جنيف كما لا يمكن للنظام العودة الى وضع ما قبل عام ٢٠١١ والواقع السوري مرشح الى مزيد من الاستبداد و التهجير الشعب السوري من وطنه الأم  سوريا، فالشعب السوري وحده الذي يدفع الثمن، و اللاعبون الرئيسيون

الذين يمسكون خيوط لعبة النار و الموت فيها لا رحمة لهم على البلد و لا يعنيهم الإنسانية ابدا في سوريا، بكل تأكيد نحن بحاجة إلى قيادات وطنية حكيمة تستطيع مد الجسور بين الأطياف والمكونات السورية، قادرة على صياغة جسم جديد يمثل الشعب السوري في المحافل الدولية، جسم يستطيع بناء الدولة الديمقراطية توفر الحياة الحرة والرفاهية والعيش المشترك للشعب، وتضمن الأمان والسلام للشعب

,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,     من هو الكاتب  ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

د. توفيق حمدوش – سياسي كردي سوري ناشط في الحراك السياسي منذ ستينان القرن الماضي في سوريا وأوروبا وكردستان