نوسوسيال

قصة قصيرة بقلم الكاتبة فوز حمزة: حين يصمت المغيب ..! 

541

كاتبة عراقية مبدعة مقيمة في بلغاريا بمدينة      صوفيا تكتب بإحساس مرهف وتعيش بين الحروف لتصيغ كلماتها بحرفيةوإتقان رائع للجملة بشفافية وصدق وإخلاص للقلم المبدع فوز حمزة

 

أحتاجتْ إلى لحظاتٍ لِتستردَ وعيّها وتدركَ أنّ الوقتَ عصرٌ وليسَ صباحاً كما ظنتْ ..هذهِ الحالة كثيراً ما تمرُ بِها حينَ تستيقظُ من قيلولتها لِتجدَ إنّ الأوقاتَ قد تداخلتْ فيما بينها إلى الحدِ الذي يَفقدُ فيهِ الزمنُ ملامحهُ وتتماهى ساعاتهُ مع بعضها البعض ..
أبتسمتْ بِسخريةٍ وألمٍ وهي تحاول إيجاد الفرق بين النهارِ وبينَ الليلِ .. بينَ الصمتِ الذي يُحيطُ بالأشياءِ من حَولِها وبينَ إنعكاسهِ داخلها .. لمْ تشعرْ يوماً ما إلى هذا الحد لم تكنْ هي والحياة معاً ..

وهي لا تزالُ مستلقية على الِفراشِ تذكرتْ الحُلم .. لم يكنْ وجهها الذي رأتهُ في المرآةِ .. حَدقتْ جيداً فيهِ .. أرتعبتْ عندما وجدتهُ رأساً بثلاثةِ وجوه لثلاثِ نساء بِعينٍ واحدة وشامةٍ سوداء أعلى الشفة.. تساءلتْ وهي تنظرُ إلى سَقفِ الغرفة ..
لماذا أشعرُ كأنني أتسلقُ منحدراً بِظهرٍ متقوسٍ ؟
كمْ منَ الوقتِ مرَّ عليّ وأنا أمشي فوقهُ منحنية ؟
صراخُ طفلة في الغرفةِ المجاورة أخرجَهَا من دوامةِ أفكارها .. غطتْ أذنيها بكفيها محاولةً تجاهلَ الصوتِ كما تفعلُ كلَ مرة لكنْ آنين العجوز القادم من الغرفة الأخرى ورجاؤها اليائس في إسكاتِ الطفلة جعلها تقفُ حائرة بين الأثنتين ..
الصخبُ داخلها يشبهُ صخبَ أمواج بحرِ آواخر تشرين ..
بحثتْ عنْ هاتفها النقال في محاولة يائسة للهربِ مما هي فيهِ إلى ذلك العالم الأفتراضي عبر حسابها الفيسبوكي لكنْ تقويم الهاتف أشار لتاريخ اليوم وهو الرابع من مايو .. ياللمصادفة .. إنها الذكرى العاشرة لإنفصالها بعد زواج دام ثماني سنوات .. أندهشتْ لأنّ قلبها لمْ يعدْ يَحمل ُ أيّة ضغينة للزوج الذي خانها مع حجارةِ الأرضِ وقططِ المزابل ..
حانتْ منها إلتفاتة لصورةِ زفافها .. حاولتْ إسترجاع مشاعرها ذلك اليوم .. اليأس من بلوغها الثالثة والثلاثين هو من دفعها للزواجِ منه .. بقيتْ تدفع ثمن لحظة الغباء تلك في الأستمرار مع زوج لمْ يكنْ العقم وحدهُ من سببَ جُرحاً لها بلْ رفضهُ الخضوعِ للعلاجِ وأصرارهِ على بقاءِ الوضع كما هو .. مؤلم حد الصمتِ حينَ تدركُ إنك كنتَ شيئاً عابراً في حياة أحدهم .. لكنْ الأمل في العثور على زوج آخر لم يفارقها لحظة .. هذه المرة لنْ تتنازلَ عنْ أيَّ شيءٍ ترغبُ بهِ في الرجل الذي سيشاركها ماتبقى من حياتها ..

ربما حياة واحدة لا تكفينا لفعل ما نريد .. هكذا فكرتْ وهي تنظرُ إلى أقدامها ..
لاتريدُ شيئاً سِوى أنْ يقولَ لها .. أريدُكِ زوجة لي ..
تطلعتْ نحوَ النافذة المغلقة ..
بدأتْ الشمسُ تهبط ُ نحو الزوال والليلُ الأزرق يزحفُ على جسدِ الأرض .. راسماً ظلالاً كثيفة مثقلة بأفكارٍ غريبةٍ ..
حملتْ فنجانَ قهوتها السادة لِترقبَ العالمَ منْ شُرفتها .. سُحب الدخان الرمادية المنبعثة منِ سِيجارتها وهي تتبددُ في الهواء أشعرتها بقصرِ الحياة وأنها يوماً ما ستصبحُ عاجزة عنْ مراقبة النجوم .. تذكرتْ ما مضى من عمرها الذي بدا لها كأنهُ أرجوحة حَاكها القدر ..

أغلقتْ بابَ شُرفتها الزجاجي وبَدأتْ ترقبُ منْ خلفهِ العجوز وهي تعنفُ الطفلةَ بَعدَ خنقها للطائرِ ونتفِ ريشه .. فشلتْ كل محاولاتها في إنبات بذور الصلح بينهما .. فكلِ يومٍ يمر يباعدُ المسافة بين الثلاثة .. ويزرعُ مزيداً من الصخورِ بينهما ..
شعورٌ بأن الحياة داخلها أصبحتْ أكثرُ وحدة وأكثر أحباطاً قد تجسد داخلها ..

نظرتْ إلى الطفلة التي أخذتْ تلملمُ ريشَ الطائرِ المنثور وفي عينيها غضبٌ مسلح لكلِ ما حولها .. بدتْ الشامة أعلى شفتها كبيرة جداً وسوداء أكثر مما ينبغي ..
شعرتْ بالخوفِ على نفسها من العجوز التي راحت تُشير بعصاها لصور الموتى المعلقة على الحائطِ كأنها تعدهم .. ومن نظراتها المتحجرة تقدحُ شرر السخط على كلِ شيءٍ ..
أستغربتْ لأنَّ التجاعيدَ أعلى شفة العجوز أخفتْ جزءاً من الشامة التي بدتْ قريبة من لون بشرتها ..
تطلعتْ نحوَ الأثنتين .. إحساسُ العجز لم يفارقها وهي تبصرُ أمام عينيها فشلها في إحلال السلام في حياتها .. بين ماكان وما سيكون .. وبين الآن ..
لم تعد الحياة سوى ساحة حرب كبيرة لهؤلاء الثلاثة ..
شعرتْ بأحتضار الطفلة والعجوز من خلف الزجاج لكن دون إعلان النهاية ..
أبتعدتْ عنْ بابِ الشرفةِ لتصطدمَ بالسياجِ الحديدي ..

حانتْ منها إلتفاتة نحوَ القطار البعيد حيثُ مضى سريعاً ولم يخلفَ وراءهُ سِوى دخان أسود سرعان ما بددهُ الهواء ..
حاولتْ التخلص من ذكريات مغبرة كانت تلازمها طوال الوقت والكف عن إستعادة ذكرى أيام مهدورة ..
هربتْ لتختبىء في ظلمة أفكارها بينما الخريفُ تسللَ إلى داخلها ليقفَ على مشارف قلبها يرقب بخوف هبوط الظلام على مدنها وقراها ..
صبتْ لها فنجاناً آخر من القهوة لتفتحَ علبةَ سجائر جديدة وتبدأ بعد النجوم .. أرتجافُ يدها دعاها لتتطلع إلى عروقِ يدها الزرقاء التي أخبرتها عن الحياة التي خَوتْ من روادها .. مالتْ برأسها إلى أسفل الشرفة .. بدتْ الأشياء صغيرة بينما العتمة تنعصرُ بين أخاديدها .. نفثتْ الدخان بقوة من صدرها .. لمْ تجدْ الكلمات لوصفِ كيفَ هو شكلُ الأشياء حينَ تصمت ..