نوسوسيال

بقلم: آلان بيري أزمة الاصطلاح والمفهوم في تعاطي السياسة المُعاصرة

499

 

ما هي السياسة؟ سؤالٌ قديم وجديد في الآن نفسه، كما وأننا لا نتوقف عن طرح هذا السؤال من وقت إلى آخر ومن عصر إلى آخر. وقد واظب على دراسته جيشٌ من الفلاسفة والمفكرين قديماً، كما وجيشٌ آخر من علماء السياسة والاجتماع والحقوق في العصرالحديث، العصر الذي تبلورت وتوطدت فيه ركائز وأسس هذه الضوابط العلمية في الغرب الأوروبي على وجه الخصوص.والسبب يعود إلى أن الإجابات المتنوعة والمتباينة في مجملها لم تكنكافية، حيث إنهااستندت إلى وجهة نظر معينة،وتأثرت بالزمان والمكان التاريخيين على حد سواء.
الإنسان كائنٌ مدنيٌ بطبعه كما قال أرسطو،وقد قال أيضاً أن الإنسان كائنٌ سياسي، وهذا ما يهمنا في الأمر الآن،ومن هنا علينا أن نبدأ.
لن اتتبع في هذا المقال أثر مفهوم السياسة في تاريخ الأفكار، وإنما سأكتفي بآخر الأفكار التي تناولت هذا الاصطلاح أو بالأحرى هذا المفهوم، كما والبدايات أيضاً وإنما على نحو مقتضب، لألتفت فيما بعد إلى إسقاط مفهوم السياسة بشكله المعاصر على راهن السياسة الكُردية في إقليم كُردستان سوريا أو ما يُعرف أيضاً بشمال شرق سوريا.
تعني في اليونانية القديمة “المواطن الكامل” وهو مواطنٌ ذكر وحر (أي ليس عبداً)، وهو ذاك Politesالمواطن الذي لا يتوجب عليه العمل بشكل دائم لتأمين لقمة عيشه، أي أنه حرٌ في تشكيل وصياغة “Idiotesحياته بحسب أرسطو. أمَّا نقيض كلمة “بوليتِس” في اليونانية فهو ”
وتعني “الشخص العادي”، وهو ذاك الشخص الذي يهتم بشؤونه الخاصة فقط دون أن يُعير اهتماماً للشأن العام، فهو لا يهتم بشؤون المدينة (والمدن كانت في اليونان القديمة عبارة عن دول، والتي عُرفت “بالمدن الدول”) أي لا يهتم ب
“TaPolitika”
” (و”البوليس” تعني المدينة، والمدينة تعبر عن Polisوهي ما تعني “الأمور والشؤون التي تخص ال”
دولة، كما سبق وأن ذكرنا).
والآن، علينا أن نسأل ما هو “السيَّاسيْ” (والسيَّاسيْ لا يعني ذاك الشخص الذي يُمارس السياسة، وإنما مصطلحٌ يعبر عن مفهومين اثنين وهما: “ما تفعله السياسة” أو “ماذا نعني بالسياسة” تقابله
“في اللغة الألمانية). Das Politischeكلمة ”
ولعل أن أحد أهم المواضيع الرئيسية المؤثرة في السياسة من حيث أنها ممارسة، كما وفي الفلسفة )Partizipation(السياسية، هي “المشاركة”
فعندما لا تكون هناك مشاركة أي “المشاركة السياسية” بمفهومها الواسع (أي المشاركة في صياغة النظام السياسي العام؛ وهنا لا نتحدث عن الديمقراطية،فالديمقراطية بالمفهوم المُعاصر لا تعني المشاركة السياسية فحسب) فلن تكون هناك “سياسةٌ”أيضاً. فالسياسة مرتبطة بالمشاركة أشد ارتباط. وإليكم المثال التوضيحي الآتي: عندما يحدد رجل دولة أو رجل دين ما استناداً إلى سلطته الدينية أو الوظيفية ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وما علينا فعله وما ليس علينا فعله، تنعدم حينهاالمشاركة، ومع انعدام المشاركة ليس بإمكاننا الحديث عن “السيَّاسيْ” في السياسة العملية. وعليه فإن انعدام المشاركة يعني بالضرورة انعدام السياسة أيضاً.
فولكر كيرهارت، فيلسوفٌ ألماني مُعاصر يتحدث في كتابه “المشاركة، مبدأ السياسة” الذي صدر في العام 2006، عن أن السياسية في جوهرها لا تعني سوى “المشاركة”. إلا أن المشاركة لا تعني “الديمقراطية” بالضرورة، كما سبق وأن أشرنا، فالديمقراطية كما نعرفها اليوم تعني مجموعة الأدوات المتمثلة في البرلمان، دولة القانون والتمثيل (تمثيل الشعب)، ومفهوم الديمقراطية هذا مفهومٌ حديث العهد. فالديمقراطية تاريخياً كما نعرفها من أثينا تعني التأثير المباشر للمواطنين في صياغة وتشكيل الحياة العامة. والديمقراطية كلمة يونانية لا تعني سوى “حكم الشعب”.
والآن ما الذي يعنيه كل ما تقدم في السياق الكُردي في شمال وشرق سوريا؟ هل يمكن لنا القول إنه هناك سياسةو”السيَّاسيْ”انطلاقاً من فرضية أن السيَّاسيْ لا بد له من أن يجسد المشاركة؟
بداية لا بد لي من أن أكرر للمرة الثالثة أننا لا نتحدث هنا عن الديمقراطية، فيمكن أن تكون هناك مشاركة دون ديمقراطية كاملة، إلا أنه وبالمقابل لا ديمقراطية حقيقية دون مشاركة حقيقية أخرى. وعندما نتحدث عن أننا نملك مؤسسات عامة (المديريات والبلديات) تُدير المجتمع، وأخرى تحمي المواطنين (أجهزة الشرطة والجيش)، وأحزاب سياسية تُمارس العمل السياسي العام، فهذا لا يعني بعدُ ديمقراطية أو مشاركة.
ولما كانت القيادة السياسية الكُردية وشركائها في الشمال السوري فَتيَّة (فلا وجود لتقاليد سياسية كُردية متجذرة) وسوريا تمر بحالة حرب ما تزال مستمرة منذ تسع سنوات؛ وبأخذ كل تلك التطورات التي حدثت خلال سنوات الحرب الأهلية السورية عموماً بعين الاعتبار، ونخص منها بالذكر: التدخلات الخارجية من الدول الإقليمية والدولية، سيطرة جماعات إرهابية واسعة النفوذ على مساحات جغرافية واسعة من البلاد، فقد كان الأجدر بالقيادة السياسية في ضوء ما تقدم أن تكون أكثر واقعية مع الشعب من حيث الممارسة والأسلوب.
وتلك الواقعية تتمثل برأي في النقاط التالية:
1. أن تصارح القيادة السياسية الشعب بالقول:إن الديمقراطية التي نتحدث عنها ناقصة، وتعاني من أخطاء كثيرة، لا يمكن تصحيحها على النحو المطلوب في ظل الظروف القائمة.
2. وأنه لا مشاركة حقيقية. فنحن أيضاً كقيادة سياسية لا نتحكم في كل شيء، ولا نحدد كل شيء. فهناك مصالحُ دولٍ كبُرى سياسية واقتصادية، وأخرى خاصة بإعادة توزيع وترتيب القوى في المنطقة، تحكمنا وتحمُلُنا في الآن نفسهعلى ما يجب فعله، وعلى ما لا يجب علينا فعله.
3. ثم هناك مصالح دول إقليمية من مثل تركيا وإيران، تفرض علينا ظروفاً قسرية، لا يمكن لنا التخلص من وطأتها بسهولة، أو بالأحرى بتلك السهول التي يتصورها المواطن العادي.
4. ثم هناك مجموعة من الصعوبات الداخلية المرتبطة بواقع الحرب الأهلية عموماً، وما خلَّفته من آثار سلبية على الإنسان والمجتمع. فهناك الفساد الإداري وتلوث البيئةوعنف أجهزة الشرطة. وهنا أيضاً ليس بمقدورنافعل وتصحيح كل ما يتمناه الفرد العادي. فهذه الصعوبات لا يمكن تجاوزها بقرار سياسي أو بقوة عسكرية أو ما شابه. فتصحيح هذه الأخطاء يتطلب تصحيح الفرد والمجتمع، نظراً لأننا نعاني من نفس الإشكاليات التي يعاني منها عدد كبير من المجتمعات الشرقية، والتي مردُها إلى عدة عوامل، منها: الاستعمار،الدين، سوء البنية التحتية المادية، تردي النظام التعليمي والافتقار إلى تقاليدَ ديمقراطيةٍ متواصلة.
5. القيادة السياسية وأجهزة الحرب والعسكر محكومة بواقع لم يكن نتاج أيدينا بالدرجة الأولى، بل فُرضت علينا فرضاَ من الخارج. فنحن كنا ولا نزال جزءً لا يتجزأ من واقع الحرب الأهلية السورية.
ولعل أن معظم هذه الأخطاء والجوانب الآنفة الذكر معروفةٌ لدى شريحة واسعة من الشعب، وهي أخطاء تتكرر ويُدار الحديث حولها كثيراً. لذا فإن بادرت القيادة السياسية إلى مجرد الإفصاح عنها – أي وجدت نفسها في مكان المسؤول الذي يُخطئ لا من أجل الخطأ أو لأنه مجردٌ من أيَّة قيم يُمثلها، وإنما من أجل الوصول إلى مزيد من النجاح – فلن يكلفها هذا سوى مزيد من التأييد والاحترام.