نوسوسيال

المغرب:بقلم الكاتب والمفكر السوري هاشم صالح/العرب والعالم التاريخ الكبير

579

لفت انتباهي مؤخراً في حدائق الكتب الفرنسية ورياضها الغناء كتابان اثنان لمؤلف واحد يدعى: فرانسوا رينار. وهو مفكر معروف في الأوساط الباريسية. الكتاب الأول بعنوان: التاريخ الكبير للعالم العربي. من الإسكندر المقدوني إلى الحركات الراديكالية المعاصرة. والثاني بعنوان: التاريخ الكبير للعالم. منذ خمسة آلاف سنة وحتى اليوم على مدار خمس قارات. وصدرا تباعاً مؤخراً. وهما كتابان ضخمان من حيث الحجم إذ يتجاوز الأول 550 صفحة، والثاني الـ 950 صفحة. وهذا شيء طبيعي لأن الموضوع المطروق واسع جداً ومتشعب. فليس من السهل أن تتحدث عن تاريخ العرب منذ ما قبل ظهور الإسلام وحتى اليوم. وليس من السهل أن تتحدث عن تاريخ العالم في ذات الفترة وعلى مدار القارات الخمس. لكن لماذا خصص للعرب وحدهم كتاباً كبيراً وخصص لبقية الشعوب من صينية وهندية وفارسية وروسية وفرنسية وألمانية.. وغيرها، كتاباً جماعياً يشملها كلها؟ ألا يمثل ذلك دليلاً على أهمية العرب كجنس بشري صانع للحضارات؟ ألا يعني أنهم مهمون حتى وهم في أوج أزمتهم وتخبطهم الحالي؟ وبهذا الصدد يقول المؤلف ما فحواه: ماذا نعرف عن العالم العربي الذي يقف على أبوابنا؟ لا شيء يذكر. فقط بعض الكليشيهات: كألف ليلة وليلة، وعلي بابا والفانوس السحري، وكالأندلس وحدائقها العطرة، وكالطرابيش والفولكلور الشرقي.. إلخ. ولكن من يعرف ذلك الدور الحاسم الذي لعبته بغداد إبان العصر الذهبي؟ معظم الفرنسيين يجهلون أن عاصمة العباسيين كانت تضم مليون شخص عام 800 ميلادية، هذا في حين أن روما لم تكن تضم أكثر من خمسين ألف شخص! وهذا يعني أن بغداد كانت أضخم مدينة في العالم. وكانت الحضارة العلمية والفلسفية والأدبية للعرب أعظم الحضارات. وكانت تطل على العالم كله من بغداد أولاً ثم من قرطبة عاصمة الأندلس ثانياً. وكانت اللغة العربية هي لغة الحضارة علماً وفلسفة تماماً كالانجليزية حالياً. من يصدق ذلك؟ كان الناس يتفاخرون آنذاك بأنهم يعرفون العربية كما نتفاخر نحن الآن بأننا نعرف الإنجليزية أو الفرنسية. وبالتالي فينبغي على الفرنسيين أن يخرجوا من قوقعتهم الضيقة لكي يتعرفوا على العالم الخارجي وفي طليعته العالم العربي.
ثم يتساءل المؤلف: لماذا نعطي الأولوية لهذا العالم العربي؟ ويجيب قائلاً ما فحواه: لأنه الأقرب إلينا جغرافياً وتاريخياً. إنه أقرب إلينا من الهند والصين واليابان والشرق الأقصى ككل. وقد تداخلت حضارتنا مع حضارته على مدار التاريخ. ولم تكن كلها صراعات وحروباً بين الإسلام والمسيحية كما يتوهم بعضهم. وإنما كانت علاقات تفاعلية حضارية خصبة منذ الأندلس وحتى اليوم. وقد استفدنا منهم كثيراً واستفادوا منا أيضاً. ويقول المؤلف إن العالم العربي يمتلك ثقافة غنية جداً وضاربة بجذورها في أعماق التاريخ. وهذا شيء مدهش بالنسبة للقارئ الفرنسي أو الأجنبي الذي يتوهم عموماً أن العرب مجرد إبل وصحراء وبترول ولا شيء آخر.. إنه يجهل فلاسفة العرب وأدباءهم الكبار من الفارابي إلى ابن سينا إلى ابن الطفيل فابن رشد فالمتنبي فالمعري.. إلخ.. وحتى طه حسين ونجيب محفوظ وميخائيل نعيمة وعشرات غيرهم في وقتنا الراهن. ولا ينسى المؤلف التحدث عن علماء العرب الكبار وفتوحاتهم وكشوفاتهم في مجال علم الفلك والرياضيات والطب والبصريات وغيرها.. كل ذلك مهم لإزالة الكليشيهات السلبية السائدة عن العرب في الغرب.

التاريخ الكبير للعالم
أما في كتابه الثاني عن التاريخ الكبير للعالم، فنلاحظ أنه يخصص أيضاً للعرب فصولاً مهمة بالإضافة إلى الحضارات الكبرى الأخرى كالحضارة الصينية والهندية والروسية واليابانية والأميركية والأوروبية.. وهنا يقول المؤلف لمواطنيه الفرنسيين ما يلي: صحيح أننا كنا مركز العالم حتى وقت قريب ولكننا لم نعد مركزه الآن. وبالتالي فينبغي التخلي عن عنجهية العرقية المركزية الأوروبية. لا ريب في أن أوروبا كانت قد أصبحت منذ القرن السادس عشر مركز العالم حضاريا بفضل النهضة الإيطالية. وقد ظلت كذلك حتى القرن التاسع عشر: عصر الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى، وبالأخص الإمبراطورية الفرنسية والإمبراطورية الإنجليزية. وكانت إنجلترا أعظم دولة في العالم آنذاك. وقد أهانت حتى حضارات عريقة كالصين والهند. من هنا تخصيصه لفصل مطول بعنوان: الصين المهانة أو المذلولة إبان حرب المخدرات التي فرضت عليها بالقوة من قبل إنجلترا وفرنسا بين عامي 1839-1860. فالصين كانت تريد منع المتاجرة بالمخدرات على أراضيها ولكنهم أجبروها على ذلك. وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: هل تعتقدون أن الصين نسيت هذه الإهانات التي نالت من كبريائها في القرن التاسع عشر؟ ألن تنتقم الآن بعد أن أصبحت قوة عظمى تكاد تزاحم أميركا بل وتتفوق عليها في بعض المجالات؟ هذا ما يخشاه الغرب أشد الخشية حالياً. كما ويخشى صعود الهند التي استعمرتها إنجلترا سابقاً كما هو معلوم. ومعلوم أيضاً أن الهند سوف تصبح قريباً كالصين ثاني أو ثالث قوة عظمى في العالم. ولهذا السبب يدعو المؤلف إلى تقوية الاتحاد الأوروبي لأن فرنسا لوحدها لا تساوي شيئاً يذكر أمام هذه القوى العظمى الصاعدة والزاحفة. وبالتالي فالعالم تغير أيها السادة ولم تعد أوروبا في مركز العالم وإنما أصبحت على هوامشه. هذا لا يعني أن الغرب الأوروبي – الأميركي سيفقد مواقعه دفعة واحدة في المدى المنظور. فهو لا يزال يمتلك أفضل الجامعات ومراكز البحوث في العالم. ولا تزال الحضارة الغربية هي وحدها التي تؤمن حرية البحث والتفكير والنقد حتى في المجالات الدينية المقدسة. ولهذا السبب تهاجر إليها الأدمغة من الصين والهند وروسيا والعالم العربي والإسلامي. ولكن هذا لن يستمر إلى الأبد. فالشعوب الأخرى بدأت تتفتح وتمسك بزمام الحضارة شيئا فشيئاً. والعرب بعد أن يجتازوا محنتهم الداعشية أو الظلامية الحالية سوف يصبحون قوة عالمية يحسب لها الحساب. فعددهم على أفق 2050 سوف يكون خمسمائة مليون نسمة. وهذا ما يتخوف منه الغرب أيضاً لأنه يقول بينه وبين نفسه: هؤلاء القوم الذين صنعوا الحضارة سابقاً قادرون على صناعتها لاحقاً. وبالتالي فلن يبقوا محصورين في عصور الانحطاط والانغلاق الطويلة. وعلى أي حال فقد ابتدأت نهضتهم. وعندما يدخل العرب التاريخ فسوف يكون لكل حادث حديث. في الواقع أنهم ابتدأوا دخوله منذ الآن. أنظر إلى النهضة العمرانية والثقافية والحضارية الكبرى في مدن مثل أبوظبي، دبي، جدة، الرياض، القاهرة، مراكش، الدار البيضاء، إلخ.. وبالتالي فالعرب قادمون بلا ريب والتنوير العربي أصبح على الأبواب. وبعد أن تنحسر عنا الظلمات الداعشية والإخونجية العصملية الحالية سوف يبتدئ العصر الذهبي الثاني للعرب.
نلاحظ في خاتمة الكتاب الثاني أن المؤلف يخصص صفحات مطولة لمناقشة الوضع الحالي للعالم. وهو يناقشه من وجهة نظر فلسفية وسياسية في آن معا. يقول لنا ما معناه: بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سيطرت على العالم نظريتان أو أطروحتان: الأولى لفوكوياما، والثانية لهانتنغتون. الأولى تُدعى نهاية التاريخ، والثانية تُدعى صدام الحضارات. وكلتاهما خاطئة جزئياً لا كلياً. وقد أسالتا حبراً كثيراً في شتى أنحاء العالم. وتعارك حولهما المثقفون العرب والروس والفرنسيون والصينيون، وسواهم.. ماذا يقول لنا فرانسيس فوكوياما؟ بالمختصر المفيد ما يلي: بعد سقوط الشيوعية لم يعد في الميدان إلا حديدان: أي الفلسفة الغربية الأميركية المتمثلة بالرأسمالية على الصعيد الاقتصادي، وبالليبرالية الديمقراطية على الصعيد السياسي. وبالتالي فالعالم كله سوف يتبنى اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية والانتخابات على الطريقة الغربية. وبالفعل فقد ابتدأت معظم الدول تنظم استفتاءات وانتخابات شكلية أو حقيقية وتأخذ رأي الشعب. وتهاوت معظم الأنظمة الديكتاتورية ذات الحزب الواحد.
من هذه الناحية لم تكن أطروحة فوكوياما خاطئة. ولكن الشيء الذي نسيه هو أن التاريخ لم يتوقف ولم ينته ولا يمكن أن ينتهي لسبب بسيط: هو أن تحقيق الديمقراطية والسعادة الكبرى والجنة الموعودة على وجه الأرض يتطلب تضحيات كبرى من قبل بقية الشعوب. وسوف ينقضي وقت طويل قبل أن تتمكن الشعوب الأخرى غير الأوروبية وغير الأميركية الشمالية من التوصل إلى الحرية والديمقراطية والجنة الأرضية. وبالتالي فإذا كان التاريخ قد توقف في الغرب فانه لم يتوقف في الشرق ولا في بقية العالم. على العكس إنه ساخن كل السخونة. يضاف إلى ذلك أن الحضارة الغربية تعاني من نواقص فاجعة أو صارخة كالشذوذ والنزعات المادية، العدمية، الإلحادية، الوثنية. إنها تعاني فراغاً روحي وصقيع عاطفي مقلق. وبالتالي فقليلاً من التواضع يا سيد فوكوياما.

صدام الحضارات
الأطروحة الثانية الخاصة بصدام الحضارات ظهرت في أميركا أيضاً بعد أطروحة فوكوياما بثلاث أو أربع سنوات فقط. وقد ظهرت كرد فعل عليها بغية نقضها. وهي أطروحة صحيحة وخاطئة في ذات الوقت: أو قل فيها بعض الصحة والكثير من الخطأ. وجه الصحة فيها هو أن ضربة 11 سبتمبر حصلت بعدها مباشرة فخلعت عليها الكثير من المصداقية. ولولا هذه الضربة الإجرامية الكبرى لربما ماتت أطروحة هانتنغتون في أرضها ولما لقيت كل هذه الضجة والفرقعة. فقد شاء له الحظ أن يحذر من خطورة الصدام بين الحضارة الإسلامية/‏‏ والحضارة الغربية قبل تحطيم برجي نيويورك الشهيرين بسنوات معدودات. ولذلك قال الناس: والله هانتنغتون على حق. انظروا ما فعله فينا متطرفو الإسلام. أليس هذا دليلاً على أن صدام الحضارات حقيقة واقعة؟ حقاً أن الرجل كان نبوئياً استشرافياً.
وأخيراً نطرح هذا السؤال: أين يكمن وجه النقص في أطروحة صدام الحضارات لصموئيل هانتنغتون؟ إنه يكمن فيما يلي: عدم التفريق بين متطرفي حضارة ما وعموم معتنقيها. إنه يكمن في التعميم الظالم على الجميع. فمن الواضح أن المتطرفين أقلية ولا يمكن أن نأخذ الأكثرية بجريرة الأقلية. هل يمكن أن نحاسب الإسبان كلهم على جرائم توركمادا ومحاكم التفتيش؟ ومعلوم أن توركمادا (1420-1498) لم يكن يقل تعصباً عن جماعات داعش والقاعدة حالياً. ولكنه يمثل أقلية داخل الدين لا جميع الإسبان ولا جميع المسيحيين. ثم هناك مثال ثان. هل يمكن أن نحاسب الشعب الألماني كله على جرائم هتلر والنازية؟ أبداً لا. ينتج عن ذلك أنه لا يمكن أن نحاسب جميع المسلمين على جرائم شباب القاعدة وداعش الضالين المضلين. هذا لا يعني أننا لسنا بحاجة إلى إصلاح وتنوير فلسفي في العالم العربي بل والإسلامي ككل. ولكن هذه قصة أخرى وحديث يطول.