نوسوسيال

دراسة تحليلية بقلم عبدالرحمن محمد : الكتابة… بين الإسهاب والإبداع

446

 

منذ أن بدأ عصر الكتابة، وفيما بعد التعلم وقدرة الإنسان على الكتابة، بات بمقدوره أن يعبر عما يجول في خاطره وما يمر به من خطوب وأحداث، سواء كانت اعتيادية أم لا، وباتت الكتابة مقرونة بالعقل والفكر لأنها نتاج عقلاني ولا يمكن لكائن غير عاقل أن يكتب أو يخط ولو حرفاً واحداً.تنوعت أشكال وأنواع وطرق الكتابة وتباينت وتماثلت في الكثير من الأوقات لكنها في كل الأحيان كانت تعبيراً عن مجريات حياة الإنسان وباتت أرشيفه وذاكرته والحافظ لتاريخ البشرية بكل أحداثها العادية نهاوالجسام،

ومنها الكتابة الهيروغليفية والسنسكريتية والكتب السماوية والآلاف من الكتابات نماذجهاالمتنوعة في الكهوف والمغاور والأوابد الأثرية كحجر رشيد الذي حمل أسرار حضارة عظيمة ومكتشفات الآثار في الجزيرة السورية، وكانت المدخل لفك شيفرتها والتعرف على حضارة موغلة في القدم.وإذا كانت بداية الكتابة وعلومها محصورة بالطبقات الراقية والكهان والحكام في المعابد والقصور، وكانت لتدوين الأحداث الهامة، فقد انتشرت بين الطبقات الوسطى ثم العامة وباتت في أيامنا كالزاد والماء،

وبات التعليم والثقافة العامة والتطور الحضاري من نتاج تعلم الكتابة أولاً ومن ثم الانطلاق نحو آفاق لا حدود لها من التقدم، وباتت الأمية من أحد أبرز سمات التخلف.الكتابةُ والكاتب والكتاب من أكثرالمفردات والموضوعات التي تتداول في الفضاء الثقافي اليوم ومنذ أمد بعيد، فالكتاب كانوا على الدوام ممن يحظون بالقدر الكبير من الاحترام والتوقير لأنهم حملة فكر ومدونين للعلوم والثقافة وحملة مشاعل النور في مجتمعاتهم الإنسانية، والكتاب كان وما يزال الصاحب الصادق والرفيق

المخلص والناصح الامين، لسان حال الأمم ومشحذ الإبداع والهمم، وما بين الكاتب والكتاب تأتي الكتابة وبأدواتها من قرطاس وقلم، الحامل الأساسي للفكر والعلوم والإبداع البشري وسارد للأحداث بكل تفاصيلها، حيث يتم تناقلتها جيلاً بعد جيل.ما يهمنا من هذه المقدمة وإن طالت بعض الشي هو الإشارة إلى عظيم دور الكاتب والكتابة رغم الكم الهائل من وسائل العلم والترفيه من ناحية وأزمة الكتابة من جهة أخرى، وذلك بسبب منظورين، أولهما: قلة الاهتمام والعزوف عن الكتابة وهجران

 

القراءة، وانتهاء تلك المرحلة نوعاً ما بين الكتاب والقارئ، التي شهدت دفئاً بين الكتاب والمتلقي، أما المنظور الآخر فالكثير ممن يمتهن الكتابة اليوم يكتب مستهيناً بقيمة الكتابة ويستسهلها، وبالتالي لا يقيم وزناً لما يكتب بل – ولمن يكتب – ولا يعطي القدر الكافي من الاهتمام والاحترام له، فنرى وللأسف نتاجات كثيرة لا ترقى إلى قدسية أن تسمى كتاب و-عفواً- تفسد الذوق العام.
من الواضح ولكل من يهتم بالشأن الثقافي أن مستويات الثقافة العامة تدنت في سوريا عامة خلال

 

العقد الأخير بسبب الصراع الدائر والأزمة المستفحلة، وبات الانشغال بالأمن والمأكل والملبس والسكن من الأوليات في ظل أزمة لا يبدو لها نهاية.الرقابة الشديدة والتقييم ودراسة الكتب التي كانت تقدم للطبع والنشر كانت سائدة وتمتلك بعض المقاييس والضوابط العلمية والأدبية والأخلاقية إزاء احترام الكاتب لاسمه وقلمه، إلى جانب تلك الرقابة الأمنية وتسلط مقص الرقيب، والتي رغم أنها كانت تسيئ وتحد من حرية التعبير والتفكير إلا أنها ذات أهمية في بتر جوانب التسلق واستسهال الكتابة، وكانت

طباعة الكتب ونشرها تستلزم توفر البنية اللغوية وشروط فن الكتابة وخاصة الجانب الأدبي منها ناهيك عن الجانب العلمي أو الإعلامي التي كان لها مختصون وإدارات ومراكز علمية، أما عصر الانفتاح و ظهور الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي سمحت لقاعدة كبيرة من أبناء الشعب بالتعبير، وأتاحت له فرص الكتابة والتواصل، ورغم إيماننا العميق بحق أي إنسان في التعبير عن أفكاره و آرائه، لكن ضمن الالتزام بالمعايير الأخلاقية والأدبية، ولكن ما يطفو على السطح من “كتابات” ضحلة غارقة في

الأخطاء ومن جميع جوانبها، وخاصة حينما تتحول تلك الكتابات المنشورة عبر الفضاء الأزرق إلى كتب وذلك بسبب توفر عوامل الطباعة وسهولة الأمر بشكله المنفلت الذي يفتقر إلى أدنى ضوابط “الكار” إن صح التعبير، ذلك أن كماً هائلاً من المخطوطات باتت تتزاحم على رفوف المكتبات وبغياب القارئ الذي فقد ثقته بالكتب التي تعاني الهزالة والضعف، مما يترك الأمر لأصحاب النفوس المريضة التي تسعى إلى تشكيل هالة وهمية حول اسمه، بالإساءة إلى فعل الكتابة والكتاب الحقيقيين، وهنا أود

الاشارة إلى حوار دار بيني وبين أحد الأساتذة المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي وهو من الكتاب والنقاد، فقال في معرض حديثه:“ما يذهلني أن العديد من الكتاب الذين يرغبون بطباعة نتاجاتهم الأدبية يرسلونها لي لإبداء الرأي فيها أو تقديمها للجمهور، وحينما أنصح أحدهم بالعدول عن النشر وضرورة إعادة النظر وإعادة صياغتها كونها تفتقد للكثير من شروط الكتابة الإبداعية، أو أحيانا أطلب منهم إلغاء فكرة الطباعة كليا، كونها لا تمتلك مقومات النشر، فيلتزم القليل، وأتفاجأ أن أغلبهم

يضربون برأيي عرض الحائط ويطبعون “كتبهم” التي للأسف لا ترقى لمستوى النشر بل إنها تفسد الذوق العام والطابع الثقافي، وتشوه من صورة الكاتب المبدع، فهم يستسهلون الكتابة، وبالتالي يركبون موجة الطباعة والنشر، ويسهمون في تراجع المستوى الثقافي، في الوقت الذي نريد أن يتقدم مستوى النشر ويحقق مكاسب معرفية للمجتمع..”.لذلك لابد من العودة إلى معرفة أسباب تدهور وتراجع مستوى المنشورات والكتب، والتي يمكن أن نردها لأسباب عدة، منها:ـ عدم المراجعة

والقراءة المتعمقة للكتب من قبل لجان التقييم الأدبية، و”مسايرة” الكُتاب في الموافقة على نتاجاتهم إما لرغبة في أن يزيد الكم على حساب الكيف، أو لناحية المحسوبية أو لقلة الخبرة الثقافية والأكاديمية.ـ التسرع في دفع النتاجات للطباعة من قبل أصحابها وعدم الأخذ برأي اصحاب الخبرة، والرغبة في الشهرة السريعة وعدم قبول النقد والرأي الآخر.– توهم البعض بهالة الكاتب وأسلوب حياته، فيطلقون اللحى ويقصدون المقاهي الثقافية، وتجدهم في كل مكان يعرضون “بريقهم”

المزيف لوسائل الإعلام.. واعتمادهم على نموذج التوب الموديل، فإن ذهبت موضة الشعر، فهناك يتسلق جدراناً أشد وعورة، فيعلن عن نفسه روائياً، وكأن الشعر أمر رخيص وباهت، رغم أن أمثاله قد مارسوا فنون التلوث الأدبي والكتابي، مما أفقر حقول الشعر وأصابها بالقحط والجدب، فهم كثر، وينبتون كالشوفان في حقول القمح، لذلك تجدهم يهرعون لحقل الرواية وربما للنقد أو ممارسة فنون تشكيلية؛ طالما يمكنه تغذية شعوره المريض بخلق هالة حول ذاته لا يراها إلا هو، وبعض من على

شاكلته..ـ التنافس بين بعض المؤسسات الثقافية التي تتسابق على نشر عناوين أكثر للمشاركة في معارض الكتاب والتسابق على إنجاز طباعتها في الأوقات الحرجة التي عادة ما تسبق موعد المعارض، مما يدفع إلى عدم التدقيق الجدي في المضمون أو في الشكل الخارجي على صعيد الطباعة والإخراج وتصاميم الغلاف وعدد النسخ الخجولة التي ربما لا تزيد عن عشرة نسخ.وكأننا في زمن باتت الكتابة عمل من لا عمل له، ففي الأعوام القليلة الماضية بات الحابل يختلط بالنابل، فبات من الصعوبة قراءة

ودراسة بعض الكتب الصادرة، فلا يمكن الحكم على بعضها بأنها راوية أو قصة طويلة أو أقصوصة، وربما كانت خواطر وتأملات ذاتية، فيردها إلى عالم الرواية، أفلا يمكن الفرز بين الأجناس الأدبية، فالحقول متداخلة، ويمكننا القول عنها حسب تعبير أحد النقاد بأنها لا تستحق سوى نعتها بـ “الأدب الهجين” حيث تجتاحه عمليات التناص غير المدروس والشبهات في السير الأدبية وعدم انتمائها لأي جنس أو حقل أدبي، فالكثير من الإصدارات التي تعلن عن أغلفتها بأنها رواية، لا تعدو مجرد سرد حوادث

يومية أو مذكرات شخصية أو يوميات لأشخاص معينين تمت روايتها وتمت كتابتها كما رويت دون تدخل من الناشر، وهو يظن أن عدد الصفحات تسعفه لإطلاق تسمية الرواية على “نتاجه/ا” الأدبي ثم أطلقوا عليها اسم رواية، كذلك الحال في الحقول الأدبية الأخرى من قصة و شعر.. وغيرها.
في أي عمل لا بد له من أدوات وأسلوب ومهنية احترافية، سواء كان عملاً حرفياً أو فكرياً أو عضلياً، ولا ضير من الممارسة والعمل، ولكن لا ينبغي له التسرع في الطبع والنشر، فلا بد من المراجعة وعرضه

على مختصين وزملاء، وأن يأخذ العمل حقه من التقييم، ولعلنا لن نذهب بعيداً إن قلنا أن خير ناقد لأعمالك في الأدب هو أنت فيما لو التزمت الصدق مع ذاتك.إن شاعراً وبقامة محمود درويش الإبداعية كان يعرض نصوصه لنقده الذاتي، و يضيف صوته لآراء منتقديه، الأمر الذي دفعه لحذف الكثير من نصوصه في طبعات لاحقة لدواوينه، كما أن الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أعلن مراراً ندمه وأسفه على نشر ملحمة ممو زين بالعربية، ولكل أسبابه، واحترامه لقلمه وقرائه.وقد قيل من قبل

وربما يكون من الصواب أن نذكر هذا القول هنا: “إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتاباً في يومهِ إلا قال في غَدِهِ: لو غَّيرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يُستحَسن، ولو قُدَّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”.ومهما يكن فلا بد لكل من يتجه نحو الكتابة أن يكون متمكناً من ناصية الكلمات واللغة والثقافة ومطلعاً على الأدب والفكر العالميين ليكون لديه المخزون الكافي والملكة الإبداعية، فالعبرة في الإبداع والخلق لا في الإعادة

ونشر ما سبق، وقيمة كل عمل لا شك ستكون بما يضيفه من متعة للذة القراءة عند المتلقي.
الكتابة علم وفن وأسلوب ومعرفة، وهي تاريخ طويل من الملاحم والأساطير والكنوز، ولن تقف في طريقها كتابات سمجة، وستبقى حقول الأدب ترتقي وتسمو بالإبداعات الجادة، ولنا في كتابنا المبدعين ممن تمرسوا في الكتابة والإبداع القدوة والأمل في خلق جيل من الكتاب الشباب الذين يلتزمون المهنية والاحترام الأخلاقي لفن الكتابة قبل كل شيء، وقديماً قال الأجداد (تحوم الغربان والنسور في السماء ذاتها).