أجلستنا ​الكورونا​ في البيت لكنها لم تمنعنا من الاستمتاع بلقاء مجلس ثقافيّ فنيّ مميّز نظمته مؤسسة بارجيل للفنون بإدارة سلطان سعود القاسمي مع عملاق الفنّ التشكيلي ​العراق​ي سعدي الكعبي مباشرةً من الولايات المتحدة الأميركية.تكلّم الكعبي لمدة ساعة وربع عن مجمل مراحله الفنيّة شارحاً حفنة من أعماله بصدق وعفويّة متميّزة. سافرنا معه من ​معهد الفنون الجميلة​ في العراق، حيث تتلمذ على يد الاستاذه الكبار مثال جواد سليم كما فايق الحسن فشاكر حسن آل سعيد،مروراًفي السعوديّة التي عرض فيها أول معرض فنيّ في بيت الطين المتواضع في ستينيات القرن المنصرم.تطغى الروح الطفوليّة في أعمال الكعبي، ممزوجة بلمحات شرقيّة لتظهر الأشكال تصويريّة خفية تارةً وطوراً تجريديّة بحته. في فترة الستينيات كانت مواضيعه تتمحور حول ذكريات الماضي في النجف البدويّة التيعاصرها طفلاً ورسمها من خياله شاباً بلوحات زيتيّة مثال” بقع الطفولة الحمراء” الى “عائلة ريفيّة” 1961 ولوحة “صيّادين السمك” 1965.تطورت مواضيعه الإنسانية لتشمل الشقين الإجتماعيّ وسياسيّ. مركزاً على الحس ​الانسان​ي الرقيق عبر خيالات نساء و أناس مجتمعة على أسطح لوحاته.


جاءت المواضيع الإجتماعية كتكريم للنساء،ففي معظمها تظهر النساء خيالاتٍ بسيطة غير متكلّفة تعكِسوضع ​المرأة​ العراقيّة القاسي. فصوّرها مقيّدة في عادات وتقاليد بدويّة أكل الدهر عليها وشرب، متذكراً نساء الفصليّات التي كانت تبدَل فيها المرأة بدل الدَين في العادات العشائريّة.
أما أعماله السياسية، جاءت لوحات تجريديّة بحتة لا تصويريّة وبرر ذلك بأن العمل الفنّي ما هو الّا ترجمة للشعور الإنساني بالقهر و إندماجه بالقيم الفكريّة،العقلانيّة والحسّية. وفسّر القيم الفكريّة بتراكمات ثقافيّة تمتزج بالقيم العقلانيّة التي تحدد للفنان طريقة الترجمة مختلِطة بالتجربة الحسيّة كطريقة لخدمة الانسان.
تتميّز لوحات الكعبي الفنّية بلونيّة ترابية مونوكروميّة واسعة تعكس لون البادية و شمسها الحارقة مع خيالات سراب وهمي خفيق الظلّ. من أبسطها وأجملها لوحة بعنوان “الصدى”1972 تجمع على سطحها مستطيلات و شكل إنساني صغير هزل. أخبرناالكعبي انّه رسم هذه اللوحة متذكراً ​مدينة النجف​ المعروفة بمقابر دار ​السلام​ والتي كانت ملعبه طفلاً مع غيره من الاطفال الغير آبه للأرواح الساكته في خشوع لتتحول بموت أخيه سلمان الى ساحة رعب أحس من خلالها بنهاية ​العالم​.
ذكر الكعبي سؤالاً فاجأه فيه أحدهم سائلاًإياه عن تأثير العولمة بالفنّ التشكيلي . أقرّ الكعبي بعدم درايته بالمفاهيم السياسيّة الرنّانة. فبسّط السؤال و أدخل الفنّ فيه قائلاً بأن مظهره عصري، يلبس البنطلون و الياقة لكن داخله شرقي كذلك اللوحة و برغم مفهومها الأوروبي لكن -في أعماله- داخلها شرقي.


يتناسى الكعبي ​المدارس​ والتيارات الفنيّة المتنوّعة و يركزّ على الموضوع و هو أمر ترجمه بلوحة تحت عنوان “رسالة من بلاد ما بين النهرين”2001. فحين طُلِب منه رسم لوحة فنيّة كبيرة بقياس مترين و نصف بمترين و نصف موضوعها ​المياه​ المالحة القادمة من ​تركيا​. تجاهل الكعبي سطحيّة الموضوع و غاص فيه في شقه التاريخي لبلاد ما بين النهرين فأدخل عشتار و نهر الدجلة و ​الفرات​ مع ​الراعي​ و الغزلان وجاءت السمكة محبوسة بإناء زجاحي شفّاف في طرف اللوحة لتزيّن حائط الأونيسكو في ​باريس​.
ختم ​النقاش​ الفنيّ بلهجته العراقيّة قائلاّ: “أعرف نفسي ماني عظيم. أنا طبيعي مثلي مثل ألآخرين، قد ما يقولون عظيم ما يهمّ، أرسم ما أخاف. أخاف من العظمة”.