نوسوسيال

بقلم: دلال عادلة/ الأسطورة في النص الشعري المعاصر

456

 

دراسة نقدية        مقاربات نقدية في أهمية الأسطورة شعرا وفكرا

تو ظيف الأسطور مسألة في غاية الأهمية, فما من شاعر عربي معاصر معروف إلا واستخدم الأسطورة في أعماله، وهناك حالات استثنائية وطفيفة لا يقاس عليها.

إن الأسطورة تُشكل نظاماً خاصاً في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، وقد يبدو هذا النظام عصيّاً على الضبط والتحديد، وذلك لضبابية الرؤية المراد طرحها في النص الشعري، ولكثافة الأسطورة نفسها غموضاً وتداخلاً مع حقول معرفية أخرى، فعندما نستحضر الأسطورة فإننا نستحضر التاريخ متداخلاً مع الميثولوجيا والخرافة، والحكاية الشعبية، وهنا يصعب علينا معرفة أوجهها كاملة، وذلك لتناصها مع هذه الحقول المعرفية الأخرى، فهل الأسطورة هي الخرافة أم هي التاريخ، أم الفلكلور أم هي الحكاية الشعبية، أم هي جزء مهم من أثنولوجيا وصفية، لاتزال بوصفها بنية معرفيه عميقة، تتعلق بمعتقدات الشعوب وروحانيتها وتقاليدها، تفعل فعلها في حياتنا المعاصرة؟….إنها مزيج من هذا وذاك، ولذلك فهي عصيّة على الضبط والتحديد، إنها رؤية متنامية متشعبة في بنية الزمان التا ريخي، والمكان الاثنوجرافي، وتصبح الأسطورة أحياناً تاريخاً، و “كل اسطورة تروي تاريخا” على حد تعبير كلود ليفي شتراوس، وتصبح خرافة، وتداخلها مع الخرافة يزيدها تعميةً وغموضاً، و التاريخ نفسه يصبح لدى جيل من الأجيال أسطورة، فبغض النظر عن كون شخصيتي شهرزاد وشهريار من التاريخ أو الأسطورة، فإنهما يبقيان في بنيتهما العامة جزءاً من السحر والأسطورة والخرافة والتاريخ والميثولوجيا والفكر والفن في آن واحد.

وتاريخياً كانت الأسطورة هي ملاذ الإنسان الأول، للانتصار على خيباته، ولتخطي فواجعه، وسياسياً كانت محاولة لخلق بديل جديد، أكثر إشراقاً وجمالاً، إنها النافذة التي يرى الإنسان العربي من خلالها النور والفرح، لأنها تخلق له حالة توازن نفسي مع محيطه ومجتمعه، فبواسطتها تتم عملية الحلم والتخيل، والاستذكار، فإذا كان الواقع فاسداً وظالماً، ومرّاً، والإنسان فيه غير قادر على تحقيق أبسط متطلباته، نتيجة لسلطة هذا الواقع المدمرة إنسانياً وأخلاقياً ، فالحلم والثورة هما الوسيلتان الوحيدتان لتخطي هذا الواقع، قد تتأخر الثورة وقد تُلغى، وقد تغيب لكن الحلم دائماً يحضر، “ويجن الإنسان حين يمنع من الحلم” على حد تعبير بودلير.     إن الحلم هو الوجه الآخر للشعر كما يرى هربرت ريد، “ولو استطعنا أن نروي أحلامنا لأمكننا أن نروي شعراً متواصلا”.

وبالرغم من التحليلات الاجتماعية التي تؤكد أن اللجوء إلى الفكر الأسطوري، هو هروب من مواجهة الواقع، وهو دعوة لسيادة الظلم ودعوة إلى إلغاء العقل “فالفكر الأسطوري القائم على   أساس غيبي لا عقلاني (…) له منطقه المختلف تماماً عن منطق الفكر الموضوعي.  والأسطورة المكونة لهذا الفكر تنزع دائماً إلى إضفاء صفات قدسية غامضة على مواضيعها  وأشيائها وأشخاصها.                                                                                  ولا مشاحة, أن الأسطورة لها عملياً مستلزمات غيبية تستند إليها في الواقع، وتنعكس بواسطتها على المجتمع وعلى السلوك السياسي، الطبقي فيه، فالوسائل المتولدة من جراء الأسطورة أو المولدة لبعضها، تتحول في المجتمع إلى أدوات إضافية للسيطرة- ملكية طبقة محددة لوسائل الممارسة الأسطورية إذا جاز التعبير والافتراض، وهو تكريس للعبودية الاجتماعية التي تعتمد عليها السلطة السياسية ضماناً لاستمرار سلطتها، فالفكر الأسطوري إذ  يُقدم للإنسان مثالاً عن إرادة القوة الغيبية ، يضعه في نفس الوقت في وضع(العبد) المندهش، المرتعب من سلطان هذه القوة التي يزعم المستبدون أنهم يمثلونها أو ينطقون باسمها”.

وبالرغم من هذه التحليلات فإن الأسطورة من حيث كونها فكراً وفنّاً وتاريخاً، تشكل خطاباً يمكن أن يقال عنه: إنه أدبي يتناص مع التا ريخ والميثولوجيا، وما يجعل الأسطورة خطاباً أدبياً، قدرتها على توسيع آفاق المخيلة عن طريق الحلم والتخيل، وما الأدب في بنيته العميقة إلا نظام رمزي قادر على الإيحاء والتأويل، ومن ثم كشف اللاإنساني واللاأخلاقي في رؤية المجتمعات البشرية ونظام قيمها، وإدانته، وحتى لو آمنا بأنه كلما تراجع المجتمع حضارياً وثقافياً، وبقي مُغلفاً بالغيبيات و الشعوذات والسحر، زادت أساطيره وخرافاته، فإن ذلك لا يعني التقليل من شأن الأسطورة، لأنها تبقى عنصراً بنائياً مكوناً للفكر الإنساني، ينمو الفكر الانساني ويتحرر ويزداد عقلانية مع تطور المعارف والعلوم، لكن ذلك لا يمنع عنه حالة الحلم والتخيل. والأسطورة في أهم خصائصها أنها رؤية حلمية تخيلية.

وترافق الأسطورة الإنسان في حلّه وترحاله باعتبارها رمزاً مضيئاً، وقد تتعدد مستويات هذا الرمز، لكنه يبقى على صلة قوية بصيرورة التاريخ، تشكُّل طبقاته الاجتماعية، وحينما يسود الفكر الأسطوري قوياً وفاعلاً لدى أمة من الامم، فان ذلك يعني وجود سلطة- بتعدد اوجهها- تمنع شرائح مجتمعها من العيش بأمان وطمأنينة وسلام روحي، لكن الأسطورة تبقى في المجتمعات المتخلفة حلا جماليا لرفض حالات الاستلاب والخيبة التي يمر بها انسان هذه المجتمعات، المفجوع والمقهور في توجهاته وتطلعاته. اما في المجتمعات المتقدمة حضاريا وتكنولوجيا، المتراجعة على مستوى العلاقات الاجتماعية بشرطها الانساني ، فانها”مرض من امراض اللغة، على حد تعبير ماركس ملر، وهي في آن مرض من امراض لوثات العصر بتعقيداته، وما تفرزه الحضارة المتقدمة صناعية من استلاب وتشيؤ.

اننا نستحضر الا سطورة في وقتنا الراهن حيث الهزائم على كل المستويات فان نزعة(نوستالجية) تتأجج في اعماقنا نحو الماضي ونحو المجهول ونحو عوالم بكر لم تستكشف بعد وتزداد هذه النزعة مع خيباتنا المتكررة في ظل انظمتنا الاجتماعية الغاصة بالتعقيد والفساد والجهل.

ان عصر توليد الساعة  قابل لان يمتد حاضرا ومستقبلا من منا لم يُعجب باسطورة جلجامش وأنكيدو وتوقهما المطلق للدفاع عن قضايا الانسانية؟. ومن منا لم يعج بتصميم جلجامش على قطع غابات واسعة وبحار طويله للبحث عن النبته المقدسة التي تعطيه هو وقومه في “أوروك” سر الخلود الابدي، والتحول من طبقة البشر الى طبقة الالهة؟.. وكم كان محزنا حينما سرقت الافعى النبته المقدسة التي حصل عليها!. ومن منا لم يعجب بشجاعة جلجامش وأنكيدو جينما قتلا الثور السماوي الذي ارسلته الالهة لقتل انكيدو بعد ان طلبت عشتار ذلك من الاله “آنو”؟.

“لقد مسكا بالثور السماوي ومزقا قلبه..

وهنا اعتلت الربه عشتار سور اوروك ذات الاسوار

وصعدت على شرفات السور وصارت تطلق اللعنه منادية:

الويل لجلجامش الذي اهانني وقتل الثور السماوي

وسمع انكيدو كلام عشتار هذا

فقطع فخذ الثور السماوي الايمن ورماه في وجهها

وانت سوف اصل اليك مثلهه( سيصيبك مني ما اصاب)

واعلق احشاءه الى جنبك

وجمعت الربه عشتار الكاهنات المنذورات

والكاهنات الحبيبات والبغايا المقدسات

ونصبوا النواح على فخذ الثور الايمن

ان اللجوء الى الأسطورة في الفكر العربي المعاصر هو استحضار للبطوله الغائبه وحنين لها وتوق لزمن نظيف وتاريخ غير ملوث بالطغاة والظلمة وعندما نستدعي البطل الاسطوري والتاريخي عبر زمن القصيدة وشفافيتها فان توقا جديدا يدفعنا لتقمص هذا البطل وتمثل حالاته باعتباره المفدي ولمخلص والشعلة التي تنير طريقا مظلما.

ان توليد الأسطورة وخلقها واعادة صياغتها عملية جمالية تهدف الى البحث عن عالم جميل ومضيء لم تقتله بعد ايديولوحيا السلطه : سلطة السلطة سلطة الكلكة وسلطة المجتمع لكن العصر الذي ولدها ويولدها ليس عصرا مضيئا فهي تخلق وتولد لتمنع زحف ظلامه وسوداوية ظلمته على المستوى التخيلي والتاملي.

ما من شاعر عربي مبدع الا ولاقى الظلم والمهانه مما كسر  شموخه الانساني وشرده فلجأ الى الحلم والتخيل واستخدام الرموز الاسطورية والتاريخية المضيئة والموحية.

وقبل ان يكون توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر   عودة الى التراث والميثولوجيا فانه رؤية تستمد مكوناتها من الواقع واتجاهات هذا الواقع ورؤاه فالتاريخ والميثولوجيا والواقع كلها مكونات للفكر الاسطوري  فالواقع العربي اليوم بتعقيده وغرائبيته وسوداوية علاقاته ومؤسساته لهو اغرب من الأسطورة,إنه الخرافة عينها التي تفوق حد التخيل والوصف,ومامن شاعر عربي مبدع إلاوعانى من إغتيال هذاالواقع لأحلامه وفرحه,وحرية قصيدته,فكان اللجوء إلى الأسطورة رفضا لهذا الواقع,وبالتالي كان استخدام الرمزالأسطوري المكثف للدلالة, البعيد الايحاء, هرباوخوفامن سلطة هذا الواقع, لكي لايثير الشاعرظنون سلطة الرقابة وريبتها, كان الشاعر العربي يرتحل ويحمل همه وهم قصيدته,ورموزه التاريخية والأسطورية,وأتى حل كان ينشد الفرح والحرية, عبر دلالات هذه الرموز,فخليل حاوي ذهب إلى لندن وكتب أجمل قصائده ( السندبات في رحلته الثامنة), وبدر شاكر السياب أخذ( أدونيسه) المضرج بدمائه, متنقلا من مشافي بيروت إلى لندن ثم الكويت, وعبد الوهاب البياتي حمل (حلاجه) عبر رحلاته من بغداد إلى بيروت وإلى مدريد, والشاع اليمني عبد العزيز المقالح أنارت له رموز بلاده ,(سيف بن ذي يزن) وضاح اليمن, بلقيس منية النفوس طريفة على قصة عيروض ولياليه المظلمة عندما كان غريبا وطالب دكتوراه خارج بلاده, إن تواتر الأسطورة وتناقلها عبر مثاقفة حضارية نامية بين الأمم والحضارات قديما وحديثا, لدليل حي على قدرتها على النفاذ إ لى أعماق الرؤية  المعاصرة, باعتبار هذه الرؤية نسقا عصيا على التحديد الزماني والمكاني,إنها ممتدة من الماضي إلى الحاضر, إن بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر لاتعني الانقطاع عن التراث, فقد أثرت التراث في تشكيل هذه البنية, ولايزال يؤثر بدرجات متفاوتة, من شاعر إلى آخر, وقد شغل التراث الإسلامي والعربي مساحة واسعة من التاريخ الإنساني, واستطاع الدارس بعامة والشاعر الحديث بخاصة أن يجد فيه امداء رحبة ومواد قيمة يستطيع أن يتعامل معها,ويغني بها فنه,ومن هذه المعطيات ما يتمثل في الموروثات الأسطورية والخرافية التي انتهت إلى حياة العرب في الجاهلية, فتداولوها وتناقلوا أحداثها مثل وادي عبقر والغول والعنقاء ويبقى التراث الشعبي يمثل ثروة غنية بالشخصيات الأسطورية والتاريخية.

المصادروالمراجع:

1 الأسطورة والمعنى ترجمة الدكتور شاكر عبد الحميد دار الشؤن الثقافية العامة بغداد الطبعة الأولى 1977

2عن الدكتور شاكر عبد الحميد من مقال له بعنوان لغة الحلم والأسطورة في شعر السبعينات بمصر مجلة البلاغة المقارنة الجامعة الأمريكية القاهرة العد الحادي عشر1991ص 85 الدكتورخليل أحمد خليل,مضمون الأسطورة في الفكر العربي الطبعة الأولى والثالثة دار الطليعة بيروت طبعة أولى 1973 والثالثة 1986 ص 75

3المصدر نفسه ص 86

3عن الدكتورمحمد عبد المعين خان الأساطير والخرافات عند العرب الطبعة الثالثة دار الحداثة بيروت 1981ص 17- 6- جلجامش ترجمة الدكتور سامي سعيد  الأحمد دار التربية بغداد ودار الجيل بيروت طبعة 1984 ص 215

4هذه رموز تاريخية وأسطورية وظفها الشاعر عبد العزيز المقالح في أعماله الشعرية

الدكتور جابرقمحية التراث الانساني في شعر أمل دنقل دار هجر للطباعة والنشر القاهرة, الطبعة الأولى 1987 ص 13

 

دراسة نقدية        مقاربات نقدية في أهمية الأسطورة شعرا وفكرا

دلال عادلة كاتبة سورية لها العديد من المقالات والدراسات الأدبية والنقدية