نوسوسيال

المرأة الصحفية المبدعة والقلم الجرئ الهام فريحة

327
news - cvQuote
النشأة والتعليم
وُلدت السيدة إلهام فريحه في لبنان وهي الابنة الوحيدة، للراحل سعيد فريحه مؤسس “دار الصياد”. تلقت علومها في لبنان وحصلت على إجازة في علم النفس من الجامعة الأميركية في بيروت. السيدة إلهام فريحه متزوجة ولها ابنة واحدة، كما انها تتقن ثلاث لغات. وتشمل هواياتها الفن والأدب والرياضة. وتعتبر السياسة من اولى اهتماماتها اليومية. وقد أرست علاقات صداقات واسعة في لبنان والعالم العربي
العمل الصحفي
عام 1973، عُينت رئيسة تحرير لمجلة جديدة اسمها ” سمر” تصدر شهرياً كمجلة متخصصة. عام 1976 تمّ تعيينها نائبة للمدير العام في دار الصياد، وكانت مسؤولة عن المقر الرئيسي للدار ومكاتبها الموزعة في سائر العواصم الكبرى كلندن وباريس والقاهرة ودبي والرياض. وقد بلغ معدل عدد العاملين في الدار حوالى ثمانمائة. عام 1981، وتحت إشرافها، تمّ إصدار مجلة ” فيروز”. وبصفتها رئيسة تحرير لهذه المجلة، استطاعت أن ترتقي بها الى مستوى أفضل وأنجح مجلة تُعنى بشؤون المرأة. عام 2002 عينت مديرا عاما لدار الصياد حيث عكفت على برنامج جديد لتطوير الموارد البشرية والتقنية والنشرية. ولعبت دورا رئيسيا في استحداث اولى المطبوعات المتخصصة وفي موضوعات غير تقليدية في المنطقة العربية وفي جعلها عصرية شكلا ومضمونا. وتبلغ مطبوعات الدر حاليا والتي تشرف عليها السيدة فريحه 10 مطبوعات. أعادت تأهيل بناء الدار بعد الدمار الذي لقيه بسبب الحرب ومكننة العمل وتحسين جودة الإنتاج، قد تعرض مكتبها لقصف مباشر دمر بكامله. علما بأنه كان بإمكان السيدة فريحه ان تغادر البلاد إلى الخارج حيث كانت تملك منزلا في العاصمة الفرنسية بعيدا عن الهموم والمخاطر
الأوسمة التي نالتها
وسام اللجنة الوطنية ليوم الطفل عام 1987 بصفتها “من رموز المحبة والعطاء”. وسام الاستحقاق الوطني من أعلى درجات الشرف قلده اياها رئيس الجمهورية اللبنانية عام 1988
شهادة تقدير” وزير الزراعة اللبنانية عام 1998 لما بذلته في سبيل تعزيز القطاع الزراعي. جائزة الصحافة عام1992 من قبل “جمعية مصطفى وعلي امين” لصمودها احدى عشر عاما  في ادارة الدار والقنابل تسقط فوق راسها

لمحات من إدارتها لدار الصياد
بين العام 1975 و 1991 اندلعت حرب مدمرة في لبنان اجتاحت جميع مناطقه وعصفت بكل قطاعاته ولم يبق فيه منطقة او مدينة او قرية لم تحترق في اتون الحرب التي ظلت مستعرة حتى المبادرة العربية الكريمة التي تمثلت في اتفاق الطائف. وقد تقطعت جرا ذلك وسائل التواصل والمواصلات وكان العمل والإنتاج يمران في مراحل بالغة التعقيد والخطورة. وكان الإعلاميون يتكبدون مخاطر جمة في أدائهم لواجباتهم المهنية. الأمر الذي فرض أعباء شديدة على المؤسسات الراغبة في الصمود وفي متابعة رسالتها وأداء واجبها الوطني والإعلامي. وكان قرار السيدة فريحه بالتعاون مع أشقائها عصام وبسام اهمية قيام “دار الصياد” بواجباتها مهما كلفها ذلك من تضحيات. ولم تكتف بذلك فحسب بل وبتحقيق قفزات نوعية تاريخية. وكانت حريصة طوال الوقت ولا تزال على إحاطة نفسها على الدوام بفريق من المساعدين الشخصيين والإداريين والباحثين والإعلاميين الأكفاء مدخلة في جسم الأسرة روحا من الاندفاع والتجدد. واستطاعت بقوة شخصيتها وصمودها ان تضرب المثل الحي للعاملين في الدار مقاسمة اياهم السراء والضراء والمحن والمخاطر، وشاطرتهم طعامهم ومأواهم، مداومة معهم العمل اليومي رغم المخاطر الجسدية الشخصية والعامة
أمثلة قيادية: العمل في ظل المخاطر
اجتازت السيدة الهام أكثر من امتحان قاسي في هذا الصدد. ويتجلى ذلك في مثلين بارزين: الأول انها، وفي فترة بلغ فيها أوار المعارك حدا استحال فيه التجوال وتوقفت الإمدادات الورقية اللازمة للطباعة، توجهت بنفسها على رأس فريق من مساعديها إلى المرفأ حيث تراكمت لفائف الورق على الأرصفة ولا من يشيلها، وأشرفت، تحت أزيز الرصاص ودوى القذائف، على تأمين حاجتها والعودة بالقافلة إلى مبنى الدار وكان اجتياز الطريق أشبه بعبور الحدود بين الدول المتعادية. واما المثال الثاني فقد تجلى أبان الفوضى السياسية وبروز سلطات أمر واقع بعيدا عن سلطة الدولة وقواها الوطنية. اذ عمدت هذه القوى، الميليشيوية، بإثارة الاضطرابات داخل المؤسسات وتحريض العاملين على الشغب بهدف الاستيلاء عليها، فوقفت بوجه هذه القوى غير الشرعية وجها لوجه وحالت دون تحقيق إطماعهم غير مبالية بتهديد شخصي من اخطر المستويات. وقد تعرض منزلها للقصف المدفعي المباشر وأمضت ليال بكاملها في ملجأ اقيم على جناح الشرعة تحت الأرض. كما تعرض مكتبها لقصف مباشر دمر بكامله. علما بأنه كان بإمكان السيدة فريحه ان تغادر البلاد إلى الخارج حيث كانت تملك منزلا في العاصمة الفرنسية بعيدا عن الهموم والمخاطر. ولكنها آثرت الوفاء لأرث “الدار” ورسالة مؤسسها سعيد فريحه، ومشاركة أفراد أسرة “الدار” الآلام والصعاب
نشاطاتها الإنسانية
علاوة على مسؤولياتها الإدارية تتولى السيدة الهام فريحه إدارة “مؤسسة سعيد فريحه وأولاده للخدمات الاجتماعية و العلمية ” وهي مؤسسة إنسانية عائلية تمّ إنشاؤها إحياءً لذكرى مؤسس الدار وعميدها الراحل سعيد فريحه. وتؤمن هذه المؤسسة، عادة، المساعدات الطبية والاجتماعية والتربوية في ربوع لبنان ومنطقة الشرق الأوسط. وقد لاقت هذه النشاطات تقديرا كبيرا. كما تتولى الإشراف على المستوصف الخيري التابع لمؤسسة سعيد فريحه وأولاده الذي يوفر العناية الطبية المجانية للأطفال في جميع حقول طب الأطفال بما في ذلك طب العيون. تتولى هذه المؤسسة، من حيث الأساس، تقديم المساعدات الاجتماعية والعلمية وخصوصا للعاملين في القطاع الإعلامي. الا ان ظروف الحرب اللبنانية المؤلمة وما سببته من مآس أوجبت تطوير عمل المؤسسة والتركيز خلال الحرب على النواحي الإنسانية من تقديمات غذائية ووسائل استقبال النازحين ومواد طبية وألبسة بل وحتى العاب أطفال، في جميع المناطق اللبنانية ومن مختلف الطوائف. ومنذ تأسيسها عام 1973 قامت المؤسسة بمئات الجولات الإنسانية مقدمة ألوف المساعدات في الأطر الإنسانية والاجتماعية والطبية والمالية عاصمة ومناطق بدءاً بالجنوب والشمال، والشرق والغرب. وقد ساعدت مسنين على تحمل أوزار الحياة الصعبة ماليا او طبيا بتقديم المساعدات المالية العينية او العقاقير الطبية او الحصص الغذائية، كما قدمت مساعدات مماثلة لذوي العاهات، وعنت بتوفير فرص الدراسة والتخصص للشباب بتقديم مساعدات تربوية لهم عن طريق تحمل أكلاف الدراسة او تبني كلفة سنوات تخصص. وينبثق عن مؤسسة سعيد فريحه وأولاده مستوصف طبي دائم للأطفال يقدّم العناية الطبية المجانية للأطفال. وتتولى السيدة إلهام فريحه الإشراف عليه شخصيا. وتشمل تقدمات المستوصف معاينات طبية من قبل أخصائيين ولقاحات موسمية وخدمات طبية مرضية منتظمة للمعوزين. ومنذ إنشائه عام1990 تمت معاينة 5,000 طفل كما وبلغت معايناته أكثر من 30,000 في جميع حقول طب الأطفال بما في ذلك طب العيون
موهبة الكتابة
ولدت السيدة الهام فريحه في بيت يسوده جو الأدب ونشأت على حب الكتابة، وترعرعت في رعاية كاتب كبير تخلده آثاره وأعماله، وجعباته وأحاديثه هو والدها سعيد فريحه. ولأنها ولدت في بيت سعيد فريحه عاشت على حب مهنة الكتابة وراحت تطرق كل باب فيها، حتى أخذت مكانها المتقدم. وهي لا تؤمن بأن الكتابة تؤخذ بالوراثة. لكنها تتسلل الى النفوس بقوة أفضل من الوراثة واقوى. ولكن الأيام الصعبة التي عاشتها بكل فصولها، وربما هي مع الموهبة التي ورثتها عن والدها هي التي خلقت منها كاتبة. في أيام الحروب، كانت مضطرة الى ملء الفراغات التي أحدثها غياب الجهاز الإداري بسبب هجرة الحرب. الا انها كانت تكتب ولا تنشر، او على طريقة الأديب الكبير مخائيل نعيمة، الذي كان والدها – رحمه الله – يردد أمامها بأنه القائل : ” اكتب، اكتب ثم مزّق ما تكتب، فتصبح كاتباً”. بادئ ذي بدء، كانت تكتب من دون اسم، وأحيانا بأسماء مستعارة، لكنها، عندما أصبحت تكتب باستمرار وكل يوم، صارت توقع مقالاتها باسم ” نادرة السعيد” او باسم ” المحلل السياسي”. وكانت كلما صادفت إنسانا، كان يحرص على إبداء إعجابه بالسيدة ” نادرة السعيد” او بمقالات ” المحلل السياسي” وحتى في قلب ” دار الصياد” لم يكن احد يعرف من هو المحلل، ومن هي نادرة. وذات يوم اتخذت القرار الطبيعي بأن تكشف هويتهما وتقول انهما الهام فريحه

 

لهام فريحة: تأخذ الصحافة العمر، لا نصفه ولا ثلاثة أرباعه

انطلاقة الحرب في العام 1975، بويلاتها وآثارها، كانت مجال تحدٍّ لها. ففي العام التالي، تسلّمت إدارة «دار الصياد» وسط ظروف صعبة اضطرت شقيقَها عصام وبسام إلى البقاء في الخارج لتأمين الدعم الضروري للعمل. خاضت إلهام فريحة مغامرة البقاء في لبنان الدامي وإدارة الدار بتصميم على النجاح. حرصت على أن تكون للجميع حولها أختًا وصديقة وفيّة، في علاقة عمل هي أبرز مواجهات تحدّي الحرب ومتطلبات السلم. تجربة إلهام فريحة سفر من أسفار نضالات نساء ورجال آمنوا بلبنان، وجزء من تاريخنا المعاصر. فلنقرأ معها في محطات هذه التجربة.

«تتالت السنوات بجميع أنواع الحروب وأهوالها، من قنص إلى قصف وتهجير وحريق وتدمير. لم تسلم طبقة في «دار الصياد» من دمار أو حريق. في العام 1984 بدأنا إنشاء مبنى العصامية، وسرعان ما انتقلنا إليه وسط لهيب المعارك، مع أنّه لم يسلم من الويلات أيضًا. وحين لم يكتفِ الدمار بقصف الدار، كان يتحول إلى منزلي ليكمل التدمير.
توالت عهود الرؤساء على لبنان، وأنا أتنقل بين الملجأ والمكتب للقيام بمسؤوليتي. ولم تعرقل مهمتي عقباتٌ ليس أقلها تناوب الجيوش على مبنى الدار القديم. كان الورق يصل رغم إقفال المنافذ البحرية، وظلت الصحف تشحن إلى الخارج رغم إقفال المطار، وكان مبنى الدار يرمم من القصف قبل صدور «الأنوار» كل صباح.
أمرٌ أساسي وحيد كنتُ استلهمه في تلك المرحلة الصعبة: روح والدي الإنسانية وعلاقته بمعاونيه، ما جمع حولي رفاقًا وزملاء أحبوني وأحببتهم، واتّخذنا معًا من «دار الصياد» بيتًا وعائلة، تُحفّزنا جميعًا روح المغامرة والتحدي والصمود. كنت متشبثة بفكرة واحدة: ليس لأحد حقّ تدمير تراث سعيد فريحة وعصاميته. لا دولة، ولا فئة، ولا حزب، ولا شخص. وكنت على استعداد لمواجهة أي كان للحفاظ على هذا الإرث الغالي».

العذاب والقهر والانتصار

تتابع قائلة: «طوال سنوات التحدي تلك، ذقت العذاب والقهر، وحلاوة الفرح بالانتصار وبقاء لبنان. وكان بعض ذاك العذاب تأمين متطلبات العمل والحياة (بينها الخبز والحليب والطعام لأولاد الرفاق والزملاء وأبناء منطقتي الحازمية)، ما ضاعف عزيمتي على الصمود وأدخل إلى قلبي الفرح، ومدّني بالصبر والقوة على تسيير عمل المؤسسة.
وهكذا عشت ثلاثًا وثلاثين سنة وسط التحدي والمسؤولية. واليوم، بعد تلك السنين من معايشتي الحرب والسلم، أراني أعطيت مظهرًا يغاير طبعي وطبيعتي: صُبِغتُ بألوان القسوة والحدّة نتيجة ظروف العمل وعنف التحديات، مع أنني عكس ذلك تمامًا. لكن لكل ظرف أحكامه.
وبعدما توقفت منشورات «دار الصياد» عن الصدور، أفكّر في مجمل تجربة العمل الصحافي التي تمر بها كل الصحف والمجلات والمؤسسات الإعلامية في لبنان، إذ لنا في المهنة زملاء يعانون ويعاندون ليستمروا ومعهم تستمرّ معيشة مئات العاملين في هذا القطاع، من صحافيين وتقنيين، وتستمرّ أمانة الشعلة التي أضاءها المؤسس، المرحوم سعيد فريحة، وكبار ذلك الجيل».
في زمن التحوّلات الكبرى التي يمرّ بها لبنان الوطن، ومجمل الشرق الأوسط، تراهن إلهام فريحة على أنّ الجيل الجديد، الواعي المثقف والحالم بوطن جديد، والمنتفض من أجل القيَم والمبادئ ودولة الحقّ والعدالة والمؤسسات، سيتمكن من تحقيق أحلامه، وبفضل إرادته سيتجاوز المحنة القاسية التي نمرّ بها.

الرحيل ورحلة التحدي

ليس من السهل أن يحمل الإنسان إرثًا بحجم إرث سعيد فريحه الذي من جعبته وُلدت للبنان صحافة. كيف حملت إلهام فريحة مع شقيقَيها هذا الإرث؟
لقد بدأت رحلتها إلى قمة التحدي يوم رحيل الوالد في 11 آذار 1978. كان في دمشق لإجراء اتصالات يحاول بها تطويق مضاعفات حادث الفيّاضية بين عناصر من الجيشَين اللبناني والسوري. يومها جاء من يُبلغها بأنّ والدها في مستشفى «المؤاساة» على أثر أزمة قلبية، وهو قبل دخوله الغيبوبة ألحّ بأن يرسلوا في طلبها. كان يومًا مفصليًا في حياتها وفي مسيرة العائلة والدار.
تتذكر تلك الرحلة: «بقيتُ أبكي ستة أشهر، إلى يوم قرّرت ألّا يموت والدي مرتين، وأن يبقى اسمه وأدبه وتراثه وإنسانيته وكرمه وشهامته رأس عنايتي واهتمامي الشخصي. وهكذا، طوال 32 سنة مضت على رحيله، كنت أعيش على أساس أنّه لم يمت. وكنتُ أُضفي، على كل من هو حولي في المنزل أو في العمل أو في مجتمعي، روحه وإنسانيته وكرمه وشهامته وحبه العمل والناس والرفاق وخاصة الجمال. ويوم أغمضت أمي عينَيها للمرة الأخيرة، لمع وميض فضلها أمامي وتذكرت والدي يوم كتب لها وعنها: «لولاكِ لكنت كل شيء إلا صاحب الجعبة».
بعد غيابه، شعرت بضرورة البقاء معه – كما كنت في حياته – على تواصل عبر الكلمة والحرف وحب الظرف والجمال. ما كتبه سعيد فريحه في «الجعبة» كان تسجيلًا أسبوعيًا لكل ما مرّ به وعاشه وفكّر فيه. فقد ذهب سعيد فريحه وبقيت «الجعبة» وبقي ينبض بالحياة من خلال كتاباته، بقلبه وعقله وفكره وحبه الجمال. ومع اعترافي بأنّني بعيدة من التشبّه به، أو من أن أكون على قدر ضئيل من عظمته وخبرته وموهبته وطاقته وأسلوبه الذي يجرح ولا يُدمي، شعرت بأن عليّ إكمال مسيرته، ولو بالمحاولة، ولمرة واحدة.
لذا لم أتردد في قرع باب الأدب، وهو القريب وتوأم باب الصحافة التي أعشقها وأغوص في بحرها. فأنا منذ صغري أحببت «مهنة البحث عن المتاعب»، وعايشت متاعب الصحافة ووهجها. ومع أنّ مسؤوليتي في «دار الصياد» إدارية أساسًا، لم أكن يومًا بعيدة من حقل التنقيب عن الأخبار، والركض وراء الكبيرة من قضايا وخفايا تُحدث هزة ودويًّا في أجواء السياسة والرأي العام. ولا أنكر أنّني كنت أهوى تلك الملاحقات وأمضي أيامًا في متابعتها، مع اهتمام خاص بالمدوّي منها، وبالمستتر من الصفقات، وبالمخفي من الأسرار.
صحيحٌ أنّ هذا الهوى الصحافي جلب لي ارتياحًا ورضى شخصيًا، لكن الصحيح أيضًا أنّه خلق لي خصومًا وأثار لي مشاكل وحرّك مؤيدين وحشد صداقات. كان «العدو» يظهر حين أكشف قضية أو فضيحة، وكان «الصديق» الحر يظهر حينًا، وحينًا لا يظهر لكن صداقته تبقى في سياق التجانس والتلاقي الروحي.
المهم أنّني حاولت أن أكون وفيّة لمفهوم والدي في الصحافة، والذي عبَّر سعيد فريحة عنه في محاضرة ألقاها يوم ١٩ كانون الثاني ١٩٧٣ في قاعة الاجتماعات الكبرى في الجامعة الأميركية، بعنوان «الصحافة بين الصناعة والالتزام»، وقال فيها: لا أشك لحظة في أنّ أولادي وإخواني وأبنائي بالروح في «دار الصيّاد» سالكون الطريق نفسه الذي أرسيته، مطمئنون إلى أنّه طريقهم الأمثل إلى خدمة الصحافة ومن خلالها لبنان والعروبة».

من غرفة إلى دارَين

وتتابع: «أثبتت التجربة أنّ النجاح متوافر على الطريق الذي سارت عليه الصيّاد، متنقلة في سيرها من غرفة واحدة إلى غرفتَين ومن دار شامخة إلى دارَين. وكانت «الصيّاد» واحدة وحيدة، فصار لها شقيقات، يقوم على خدمتها جميعًا أربعمئة وخمسون عاملًا ومحررًا وموظفًا، كلهم شباب. هذه هي الصحافة، تعطي الكثير وتأخذ الكثير، وهي في عطائها وأخذها لا تحسد أحدًا على مجد، ولكنّها قد تحسد بائع فلافل على النعمتَين: ثمرة الجهد وراحة البال.
أكثر ما تأخذه الصحافة من جهودها هو العمر، لا نصفه، ولا ثلاثة أرباعه، بل كله من غير هدنة ولا تقاعد. وتهون الأعمار ومعها الجهد والعرق في سبيل صنع صحافة جيدة متطورة لا تتهاون مع الظلم والفساد! فكما يُطلب من الصحافة أن تكون حربًا على الطغاة والأشرار وحيتان المال والاحتكار، كذلك يُطلب منها أن تكون عونًا للطبقات المظلومة، ومصدرًا للتوعية ومنبرًا للحق والحرية والنضال الوطني، وأحيانًا وسيلة للترفيه وإشاعة الابتسام، أي أنّ رسالتها متعددة الجوانب والمسؤوليات، لا يستطيع أن يقوم بها على الوجه الأكمل، إلا الملائكة وأنصاف القديسين.
ومعنى هذا أننّا لا ندّعي العصمة، ولكنّنا نستطيع، نحن القيّمون على الصحافة اللبنانية أن نؤكد حقيقة متواضعة، وهي أننّا شققنا الطريق لصحافتنا إلى الأحسن والأفضل. ويرجع الفضل إلى مناخ الحرية عندنا. وأجمل العطاء في الصحافة وبخاصة في مجال النقد وتصحيح الأخطاء، هو الأسلوب الذي يزدان بالكلمة التي توجع ولا تُسيل الدماء».

ما الذي يميّز قلم المرأة عن قلم الرجل؟

تُقرّ فريحة بأنّ الصحافة جعلتها، وهي المرأة ذات الطباع الرقيقة في الأساس، مضطرةً إلى مواجهة القسوة والتحديات بمثلها. وترى أنّ الصحافة تبدِّل من الخصائص الأساسية للمرأة التي يُجمِع الناس على أنّها طباعٌ وخصائص أنثوية حصرًا، كالرقّة والليونة والديبلوماسية. وهذا الأمر تعيشه المرأة في الصحافة في عصرنا هذا، كما في العديد من المهن والقطاعات. فسمة العصر هي التحدّي والكفاح لإثبات الحضور، والحياة للأقوى.
وتضيف: «لا يمكنني إلا أن أُثني على الزميلات، الكاتبات والمراسلات والمحررات، اللواتي رافقن مسيرة «دار الصياد» على مدى عقود، وظهرت بينهنّ الشاعرات والروائيات وكاتبات المقال السياسي أو الوجداني ومقالات الرأي التي غيَّرت في مجتمعنا وأسهمت في زرع أفكار الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة.
فالكاتبة في الدار كانت «أخت الرجال» بكل ما في الكلمة من معنى. أي بمعنى أنّها «قوية» وبمعنى أنّها شقيقة ومناضلة حقيقية، وبمعنى أنّها مساوية للرجل في الحقوق والواجبات وفرص التقدُّم والتطوُّر. وفي ظلّ إدارتي للدار، أنا المرأة، جهدتُ لأتفهَّم كل الزميلات وأن يكون التعاطي معهنّ من منطلق الزمالة في المهنة والمشاركة في المشاعر والهواجس والتطلعات».

الصحافة وخدمة قضايا المرأة

عندما أصدرت «دار الصياد» مجلة «فيروز»، كانت هي المجلة النسائية الثانية في العالم العربي. وكانت تكريمًا لسعيد فريحة في الذكرى السنوية الأولى لغيابه. وتوضح إلهام فريحة: «أَحبَّ شقيقي بسّام أن تبقى مسيرة سعيد فريحة متوثّبة أكثر فأكثر، ووجدتُ نفسي الأَوْلى بإدارة «فيروز» لكوني امرأة وأمينة على الرسالة مع شقيقيّ. أطلقنا العدد الأول لمناسبة عيد مولدي في العام ١٩٨١. وقد تولّيتُ تبويبها وتجهيز أفكارها لتكون مجلة مميزة. وكانت لبسّام مساهمة حيوية من خارج لبنان بتوفيره مساحات هائلة من الإعلانات، ما يؤمّن لنا الانطلاق بقوة. فالعدد الأول، المصقول بأفخر أنواع الورق والألوان والإخراج المميّز، تضمّن خمسين صفحة إعلان. وبقيت المجلة ركيزة أساسية للدار وتولّت ابنتي منى إدارتها لسنوات.
ولكن، أشير إلى أنّنا، من منطلق نظرتنا إلى أنّ المرأة والرجل شريكان متساويان في المجتمع، أصدرنا أيضًا مجلة «الفارس» التي كانت صنو «فيروز» لعالم الرجال. وقد صدرت في البداية اعتبارًا من آب ١٩٨٥ مرة كل شهرين باسم «فارس فيروز»، لتتحول إلى مجلة شهرية مستقلة باسم «الفارس» اعتبارًا من أيار ١٩٩١.
كان لنا الشرف، من خلال مجلة «فيروز»، في تقديم نموذج مضيء إلى المرأة العربية. فقد كنتُ حريصة على أن أستقي كل ما يهمّ المرأة في العالم، وما يتعلق بطموحاتها وأحلامها وحقوقها وهواجسها، بما في ذلك الأبحاث والمقالات الصادرة عن أرقى المراجع. وكنت أعمل على تقديم ما يناسب منها إلى المرأة العربية، بعد التشاور مع مفكرين وباحثين متخصصين في مجتمعاتنا العربية. وأعتقد أنّنا استطعنا أن نخدم هذا المجتمع بإعطاء صورة واقعية وطموحة في الوقت نفسه عن حريّة المرأة وتطلعاتها الفكرية وعلاقتها بالرجل، الأب والأخ والإبن والزوج والصديق والزميل في العمل والرفيق على مقاعد الدراسة وسوى ذلك. وهذا هو الدور الذي كان مُلقى على عاتقنا، والذي به عملنا لنرضي ضميرنا ونحفظ المبادئ التي أرساها الوالد المؤسس سعيد